بحذافيره في الجنّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النّار، فجعل الدّور ثلاثة: دارا أخلصت للطّيّبين، وهي حرام على غير الطّيّبين، وقد جمعت كلّ طيّب وهي الجنّة، ودارا أخلصت للخبيث والخبائث، ولا يدخلها إلّا الخبيثون وهي النّار، ودارا امتزج فيها الطّيّب والخبيث وخلط بينهما، وهي هذه الدّار، ولهذا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، وذلك بموجب الحكمة الإلهيّة، فإذا كان يوم معاد الخليقة، ميّز الله الخبيث منالطّيّب، فجعل الطّيّب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنّة وهي دار الطّيّبين، والنّار، وهي دار الخبيثين، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم فجعل طيّبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذّاتهم، أنشأ لهم منها أكمل أسباب النّعيم والسّرور، وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم، فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزّة باهرة قاهرة، ليري عباده كمال ربوبيّته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنّهم كانوا هم المفترين الكذّابين، لا رسله البررة الصّادقون. قال الله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (النحل/ ٣٨- ٣٩)
والمقصود أنّ الله- سبحانه وتعالى- جعل للسّعادة والشّقاوة عنوانا يعرفان به، فالسّعيد الطّيّب لا يليق به إلّا طيّب، ولا يأتي إلّا طيّبا ولا يصدر منه إلّا طيّب، ولا يلابس إلّا طيّبا، والشّقيّ الخبيث لا يليق به إلّا الخبيث، ولا يأتي إلّا خبيثا، ولا يصدر منه إلّا الخبيث، فالخبيث يتفجّر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه، والطّيّب يتفجّر من قلبه الطّيب على لسانه وجوارحه. وقد يكون في الشّخص مادّتان، فأيّهما غلب عليه كان من أهلها فإن أراد الله به خيرا طهّره من المادّة الخبيثة قبل الموافاة. فيوافيه يوم القيامة مطهّرا، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنّار، فيطّهّر منها بما يوفّقه له من التّوبة النّصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفّرة، حتّى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويمسك عن الآخر موادّ التّطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادّة خبيثة، ومادّة طيّبة وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النّار طهرة له وتصفية وسبكا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث، صلح حينئذ لجواره، ومساكنة الطّيّبين من عباده. وإقامة هذا النّوع من النّاس في النّار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالا وتطهيرا أسرعهم خروجا، وأبطؤهم أبطؤهم خروجا، جزاء وفاقا، وما ربّك بظلّام للعبيد. ولمّا كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذّات، لم تطهّر النّار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان كالكلب إذا دخل البحر، ثمّ خرج منه، فلذلك حرّم- الله تعالى- على المشرك الجنّة. ولمّا كان المؤمن الطّيّب المطيّب مبرّءا من