للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بحديث فالتفت فهو أمانة «١» . والثّاني: أن يكون حديثا في نفسك بما تستقبح إشاعته أو شيئا تريد فعله. وإلى الأوّل من ذلك أشار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «من أتى منكم من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله» وإلى الثّاني أشار من قال: «من وهن الأمر إعلانه قبل إحكامه» .

وكتمان النّوع الأوّل من الوفاء ويختصّ بعامّة النّاس، والثّاني من الحزم والاحتياط وهو مختصّ بالملوك وأصحاب السّياسات. وإذاعة السّرّ من قلّة الصّبر وضيق الصّدر، وتوصف به ضعفة الرّجال والصّبيان والنّساء، والسّبب في أنّه يصعب كتمان السّرّ هو أنّ للإنسان قوّتين: آخذة، ومعطية. وكلتاهما تتشوّف إلى الفعل المختصّ بها، ولولا أنّ الله تعالى وكّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار من لم تزوّده، فصارت هذه القوّة تتشوّف إلى فعلها الخاصّ بها. فعلى الإنسان أن يمسكها ولا يطلقها إلى حيث ما يجب إطلاقها، ولا يخدعنّك عن سرّك قول من قال: وأكتم السّرّ فيه ضربة العنق. وقول من ينشدك:

ويكاتم الأسرار حتّى كأنّه ... ليصونها عن أن تمرّ بباله

فذلك قول من يستنزلك عمّا في قلبك، فإذا استفرغ ما عندك لم يرع فيه حقّك، فقد قيل: الصّبر على القبض على الجمر أيسر من الصّبر على كتمان السّرّ. وما أصدق من أنبأ عن حقيقة حاله حيث قال له صديقه: أريد أن أفشي إليك سرّا تحفظه عليّ فقال:

لا أريد أن أوذي قلبي بنجواك، وأجعل صدري خزانة شكواك، فيقلقني ما أقلقك، ويؤرّقني ما أرّقك فتبيت بإفشائه مستريحا ويبيت قلبي بحرّه جريحا.

وقد قيل: أكثر ما يستنزل الإنسان عن سرّه في ثلاثة مواضع: عند الاضطجاع على فراشه، وعند خلوّه بعرسه، وفي حال سكره، ومن حقّ من يسارر غيره أن يتجنّب المحافل لأمرين: أحدهما: الحذر من أن يساء به الظّنّ:

فهذا يقول قد اغتابني ... وذا يستريب، وذا يتّهم

والثّاني: أنّه ربّما يتتبّع بالفحص فيطّلع على مراده. ولذلك قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثّالث؛ فإنّ ذلك يحزنه» «٢» .

[والكتمان نوعان أيضا:]

الأوّل: الكتمان المحمود، وهو ضرب من الأمانة ونوع من الوفاء، وعلامة على الوقار، وهو كتمان سرّ الغير أو النّفس وهو مناط هذه الصّفة ومعقدها.

الآخر: الكتمان المذموم وهو على ضربين أيضا:

أ- كتمان الشّهادة: وقد ذمّه المولى عزّ وجلّ في قوله وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (البقرة/ ٢٨٣) .

وقال عزّ وجلّ أيضا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ (البقرة/ ١٤٠) .

ب- كتمان ما أنزل الله: وقد أخذ المولى عزّ


(١) أي التفت المتكلم يرى أيسمعه أحد أم لا.
(٢) الذريعة إلى مكارم الشريعة للراغب (٢٩٧) .