للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقصرها على الاكتفاء بما يقيم أود الجسد ويحفظ صحّته فقط، واجتناب السّرف في جميع الملذّات وقصد الاعتدال، وأن يكون ما يقتصر عليه من الشّهوات على الوجه المستحبّ المتّفق على ارتضائه وفي أوقات الحاجة الّتي لا غنى عنها، وعلى القدر الّذي لا يحتاج إلى أكثر منه، ولا يحرس النّفس والقوّة أقلّ منه، وهذه الحال هي غاية العفّة «١» .

قال الجرجانيّ- رحمه الله تعالى-: العفّة: هي هيئة للقوّة الشّهويّة متوسّطة بين الفجور الّذي هو إفراط هذه القوّة والخمود الّذي هو تفريطه. فالعفيف من يباشر الأمور على وفق الشّرع والمروءة «٢» .

[أنواع العفة:]

قال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: العفّة والنّزاهة والصّيانة من شروط المروءة، والعفّة نوعان:

أحدهما العفّة عن المحارم، والثّاني العفّة عن الماثم، فأمّا العفّة عن المحارم، فنوعان: أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، والثّاني كفّ اللّسان عن الأعراض، فأمّا ضبط الفرج عن الحرام فلأنّ عدمه مع وعيد الشّرع وزاجر العقل معرّة فاضحة، وهتكة واضحة. وأمّا كفّ اللّسان عن الأعراض؛ فلأنّ عدمه ملاذّ السّفهاء وانتقام أهل الغوغاء، وهو مستسهل الكفّ، وإذا لم يقهر نفسه عنه برادع كافّ، وزاجر صادّ، تلبّط بمعّارّه، وتخبّط بمضارّه، وأمّا العفّة عن الماثم فنوعان أيضا: أحدهما: الكفّ عن المجاهرة بالظّلم، والثّاني:

زجر النّفس عن الإسرار بخيانة. فأمّا المجاهرة بالظّلم فعتوّ مهلك وطغيان متلف، ويؤول إن استمّر إلى فتنة تحيط في الغالب بصاحبها فلا تنكشف إلّا وهو مصروع. وأمّا الاستسرار بالخيانة فضعة لأنّه بذلّ الخيانة مهين، ولقلّة الثّقة به مستكين، وقد قيل: من يخن يهن. هذا ولا يجعل ما يتظاهر به من الأمانة زورا، ولا ما يبديه من العفّة غرورا، فينتهك الزّور وينكشف الغرور، فيكون مع هتكه للتّدليس أقبح، ولمعرّة الرّياء أفضح «٣» .

قال ابن الجوزيّ- رحمه الله-: الكمال عزيز والكامل قليل الوجود، وأوّل أسباب الكمال تناسب أعضاء البدن وحسن صورة الباطن، فصورة البدن تسمّى خلقا، وصورة الباطن تسمّى خلقا، ودليل كمال صورة البدن حسن السّمت واستعمال الأدب، ودليل كمال صورة الباطن حسن الطّبائع والأخلاق.

فالطّبائع: العفّة، والنّزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشّره.

والأخلاق: الكرم والإيثار وستر العيوب وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.

فمن رزق هذه الأشياء رقّته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلّة أوجبت النّقص «٤» .


(١) تهذيب الأخلاق (٢١، ٢٢) .
(٢) التعريفات (١٥١) والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (٢٤٣) .
(٣) أدب الدنيا والدين (٣٨٤- ٣٩٠) بتصرف شديد.
(٤) صيد الخاطر (٢٨٩) .