للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الباطل من الأماني الكاذبة والشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها وإرادتها، فمنه يدخل عليها كل مكروه فما على النفوس بشيء هو أبلغ من هواها وإرادتها إليه وقد علم ذلك إخوانه من شياطين الإنس فلا يستعينون على الصورة الممنوعة منهم بشيء أبلغ من هواهم وإرادتهم، فإذا أعيتهم صورة طلبوا بجهدهم ما تحبه وتهواه ثم طلبوا بجدهم تحصيله، فاصطادوا تلك الصورة فإذا فتحت لهم النفس باب الهوى دخلوا منه فجاسوا خلال الديار فعاثوا وأفسدوا وفتكوا وسبوا، وفعلوا ما يفعله العدو ببلاد عدوه إذا تحكم فيها فهدموا معالم الإيمان والقرآن والذكر والصلاة وخربوا المساجد وعمروا البيع والكنائس والحانات والمواخير، وقصدوا إلى الملك فأسروه وسلبوه ملكه ونقلوه من عبادة الرحمن إلى عبادة البغايا والأوثان ومن عز الطاعة إلى ذلك المعصية، ومن السماع الرحماني إلى السماع الشيطاني ومن الاستعداد للقاء رب العالمين إلى الاستعداد للقاء إخوان الشياطين فبينا هو يراعي حقوق الله وما أمره به إذ صار يرعى الخنازير، وبينا هو منتصب لخدمة العزيز الرحيم إذ صار منتصبا لخدمة كل شيطان رجيم.

والمقصود أن الملك قرين النفس المطمئنة والشيطان قرين الأمارة، وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب وزاد فيه عمرو قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر الله وليتعوّذ من الشيطان «١» .

[مقتضيات النفس المطمئنة والنفس الأمارة]

النفس المطمئنة والملك وجنده من الإيمان يقتضيان من النفس المطمئنة التوحيد والإحسان والبر والتقوى والصبر والتوكل والتوبة والإنابة والإقبال على الله وقصر الأمل «٢» والاستعداد للموت وما بعده، والشيطان وجنده يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك، وقد سلط الله سبحانه الشيطان على كل ما ليس له ولم يرد به وجهه ولا هو طاعة له، وجعل ذلك إقطاعه فهو يستحث النفس الأمارة على هذا العمل والإقطاع ويتقاضى أن تأخذ الأعمال من النفس المطمئنة فتجعلها قوة لها فهي أحرص شيء على تخليص الأعمال كلها وأن تصير من حظوظها، فأصعب شيء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة وتجعلها لله فلو وصل منها عمل واحد كما ينبغي لنجا به العبد ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا لها عملا واحدا يصل إلى الله كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه: والله لو أعلم أن لي عملا واحدا وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله، وقال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبّل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إليّ من الموت (إنما يتقبّل الله من المتقين) «٣» .


(١) كتاب الروح لابن القيم، ص ٢٠٥، ٢٠٦ (باختصار وتصرف يسير) .
(٢) انظر تفاصيل هذه الصفات بالموسوعة.
(٣) كتاب الروح لابن القيم، ص ٢٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>