للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

تعالجت به، والمريض من الأطبّاء يحتاج إلى المشاورة.

وإن أخطأك الشّفاء ونباعن دائك الدّواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فإن قتلناك قتلناك بحكم الشّريعة. أو ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثّقة، وتعلم أنّك لم تقصّر في اجتهاد، ولم تفرّط في الدّخول في باب الحزم، قال المرتدّ: أوحشني كثرة ما رأيت من الاختلاف فيكم!

قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التّشهّد وصلاة الأعياد وتكبير التّشريق، ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف، إنّما هو تخيير وتوسعة، وتخفيف من المحنة فمن أذّن مثنى وأقام مثنى لم يؤثّم، ومن أذّن مثنى وأقام فرادى لم يحوّب «١» ، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا وتشهد عليه بتاتا «٢» .

والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبيّنا، مع إجماعنا على أصل التّنزيل، واتّفاقنا على عين الخبر. فإن كان الّذي أوحشك هذا حتّى أنكرت من أجله هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللّفظ بجميع التّوراة والإنجيل متّفقا على تأويله، كما يكون متّفقا على تنزيله، ولا يكون بين جميع النّصارى واليهود اختلاف في شيء من التّأويلات. وينبغي لك أن لا ترجع إلّا إلى لغة لا اختلاف في تأويل ألفاظها ولو شاء الله أن ينزّل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنّا لم نر شيئا من الدّين والدّنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل وليس على هذا بنى الله الدّنيا.

قال المرتدّ: أشهد أنّ الله واحد لا ندّ له ولا ولد، وأنّ المسيح عبده، وأنّ محمّدا صادق، وأنّك أمير المؤمنين حقّا! فأقبل المأمون على أصحابه فقال: فروا عليه عرضه «٣» ، ولا تبرّوه في يومه ريثما يعتق إسلامه؛ كي لا يقول عدوّه إنّه أسلم رغبة، ولا تنسوا بعد نصيبكم من برّه وتأنيبه ونصرته، والعائدة عليه «٤» .

[من مضار (الردة)]

(١) تودي بحياة المرتدّ في الدّنيا وتوجب له الخلود في النّار في الآخرة.

(٢) تلقي على الأمّة عبئا ثقيلا من الحذر والاحتياط إذا تمكّن المرتدّ من الفرار إلى خارج مجتمعها.

(٣) قد يفتح المرتدّ لأعداء الأمّة ثغرات للإضرار بها بما يقدّمه لهم من معلومات يبنون عليها خطّتهم في مواجهتها.

(٤) قد تؤدّي الرّدّة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالاقتداء بالمرتدّ حين يظفر بحماية أعداء الأمّة وما يغدقون عليه من رفاهية العيش.


(١) لم يحوب، من الحوب، بالضم.. وهو الإثم. وهذا الفعل مما لم يذكر في المعاجم.
(٢) بتاتا، اي قطعا.
(٣) فروا، من الوفر- يقال: وفره عرض ووفره له: لم يشتمه.
(٤) البيان والتبيين ٣/ ٣٧٥ وما بعدها.