للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهكذا في الواقع حقيقة: أنّه ما اتّهم أحد دليلا للدّين إلّا وكان المتّهم هو الفاسد الذّهن، المأفون في عقله وذهنه. فالآفة من الذّهن العليل لا في نفس الدّليل. وإذا رأيت من أدلّة الدّين ما يشكل عليك، وينبو فهمك عنه فاعلم أنّه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأنّ تحته كنزا من كنوز العلم، فلم تؤت مفتاحه بعد، هذا في حقّ نفسك. وأمّا بالنّسبة إلى غيرك، فاتّهم آراء الرّجال على نصوص الوحي وليكن ردّها أيسر شيء عليك للنّصوص، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء.

قال الشّافعيّ: أجمع المسلمون على أنّ من استبانت له سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يحلّ له أن يدعها لقول أحد «١» .

الثّالث: أن لا يجد إلى خلاف النّصّ سبيلا ألبتّة، لا بباطنه، ولا بلسانه، ولا بفعله، ولا بحاله؛ بل إذا أحسّ بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على الزّنا، وشرب الخمر، وقتل النّفس. بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داع إلى النّفاق وهو الّذي خافه الكبار والأئمّة على نفوسهم.

الدّرجة الثّانية: أن ترضى بما رضي الحقّ به لنفسه عبدا من المسلمين أخا، وأن لا تردّ على عدوّك حقّا، وأن تقبل من المعتذر معاذيره.

ومعنى: أن لا تردّ على عدوّك حقّا: أي لا تصحّ لك درجة التّواضع حتّى تقبل الحقّ ممّن تحبّ وممّن تبغض، فتقبله من عدوّك، كما تقبله من وليّك.

الدّرجة الثّالثة: أن تتّضع للحقّ، فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة، ورؤية حقّك في الصّحبة، وعن رسمك في المشاهدة.

وحاصل ذلك: أن تعبد الحقّ سبحانه بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك ولا يكون الباعث لك داعي العادة، وأن لا يكون باعثك على العبوديّة مجرّد رأي وموافقة هوى ومحبّة وعادة؛ بل الباعث مجرّد الأمر. والرّأي والمحبّة والهوى والعوائد منفّذة تابعة لا أنّها مطاعة باعثة. وأمّا نزوله عن رؤية حقّة في الصّحبة فمعناه: أن لا يرى لنفسه حقّا على الله لأجل عمله فمتى رأى لنفسه عليه حقّا فسدت الصّحبة «٢» .

[الفرق بين التواضع والذل والمهانة:]

والفرق بين التّواضع والمهانة (أو الذّلّ) أنّ التّواضع يتولّد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبّته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها، فيتولّد من ذلك كلّه خلق هو التّواضع وهو انكسار القلب لله وخفض جناح الذّلّ والرّحمة لعباده فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقّا بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنّما يعطيه الله عزّ وجلّ من يحبّه ويكرّمه ويقرّبه «٣» .

وأمّا المهانة (الذّلّ) فهي الدّناءة والخسّة وبذل النّفس أو ابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السّفل في نيل شهواتهم وتواضع طالب كلّ حظّ لمن يرجو نيل حظّه منه فهذا كلّه ضعة لا تواضع والله سبحانه يحبّ التّواضع ويبغض الضّعة والمهانة «٤» .

والتّواضع المحمود على نوعين:- النّوع الأوّل:

تواضع العبد عند أمر الله امتثالا وعند نهيه اجتنابا فإنّ النّفس لطلب الرّاحة تتلكأ في أمره فيبدو منها نوع إباء وشرود هربا من العبوديّة وتثبت عند نهيه طلبا للظّفر بما منع منه، فإذا وضع العبد نفسه لأمر الله


(١) انظر صفات: الاتباع والابتداع والعبادة والمحبة.
(٢) مدارج السالكين لابن القيم (٢/ ٣٤٨- ٣٥١) .
(٣) انظر صفات: معرفة الله والإخبات والخوف والخشية والخشوع.
(٤) انظر صفات الذل والمعصية.