للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلا خيره يرجى ولا شرّه يؤمن، وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقلّ عند استقلاله فليس لمثله في الإخاء حظّ، ولا في الوداد نصيب.

وأمّا من يعين ولا يستعين فهو كريم الطّبع، مشكور الصّنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلا في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة.

فهذا أشرف الإخوان نفسا وأكرمهم طبعا فينبغي لمن أوجد له الزّمان مثله، وقلّ أن يكون له مثل؛ لأنّه البرّ الكريم والدّرّ اليتيم، أن يثني عليه خنصره، ويعضّ عليه بناجذه ويكون به أشدّ ضنّا منه بنفائس أمواله، وسنيّ ذخائره؛ لأنّ نفع الإخوان عامّ، ونفع المال خاصّ، ومن كان أعمّ نفعا فهو بالادّخار أحقّ، ثمّ لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رضي سائر أخلاقه، وحمد أكثر شيمه؛ لأنّ اليسير مغفور والكمال معوز «١» .

[التعاون واجب ديني وضرورة اجتماعية:]

قال ابن خلدون- رحمه الله تعالى-: إنّ الاجتماع الإنسانيّ ضروريّ، ويعبّر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدنيّ بالطّبع أي لا بدّ له من الاجتماع وبيانه أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصحّ حياتها وبقاؤها إلّا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله إلّا أنّ قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفّية له بمادّة حياته منه ولو فرضنا منه أقلّ ما يمكن فرضه وهو قوت يوم واحد من الحنطة مثلا فلا يحصل إلّا بعلاج كثير من الطّحن والعجن والطّبخ وكلّ واحد من هذه الأعمال الثّلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتمّ إلّا بصناعات متعدّدة من حدّاد ونجّار وفاخوريّ وهب أنّه يأكله حبّا من غير علاج فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبّا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الزّراعة والحصاد والدّراس الّذي يخرج الحبّ من غلاف السّنبل ويحتاج كلّ واحد من هذه إلى آلات متعدّدة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن تفي بذلك كلّه أو ببعضه قدرة الواحد فلا بدّ له من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم فيحصل بالتّعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كلّ منهم أيضا في الدّفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ لأنّ الله سبحانه لمّا ركّب الطّباع في الحيوانات كلّها وقسّم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظّ الإنسان، فقدرة الفرس مثلا، أعظم بكثير من قدرة الإنسان، وكذا قدرة الحمار والثّور والأسد والفيل أضعاف من قدرته. ولمّا كان العدوان طبيعيّا في الحيوان جعل لكلّ واحد منها عضوا يختصّ بمدافعة ما يصل إليه من عادية غيره، وجعل للإنسان عوضا عن ذلك كلّه الفكر واليد، فاليد مهيّأة للصّنائع بخدمة الفكر، والصّنائع تحصّل له الالات الّتي تنوب له عن الجوارح


(١) أدب الدنيا والدين للماوردي (٢١١- ٢١٣) بتصرف.