للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصد بقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (مريم/ ٩٣) .

الثّالث: عبد بالعبادة والخدمة: والنّاس في هذا ضربان:

أ- عبد مخلص لله، وهو المقصود بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ (الكهف/ ١) .

ب- عبد للدّنيا وأعراضها، وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها وإيّاه قصد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «تعس عبد الدّرهم، تعس عبد الدّيا نار» ... الحديث» «١» .

[من معاني كلمة «العبادة» في القرآن الكريم:]

ذكر أهل التّفسير أنّ العبادة في القرآن على وجهين: أحدهما: التّوحيد. ومنه قوله تعالى في سورة النّساء: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً (النساء/ ٣٦) أي وحّدوه.

والثّاني: الطّاعة. ومنه قوله تعالى في يس: أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ (يس/ ٦٠) ، وفي سبأ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (سبأ/ ٤٠) «٢» .

[حقيقة العبادة:]

قال القرطبيّ- رحمه الله-: أصل العبادة:

التّذلّل والخضوع، وسمّيت وظائف الشّرع على المكلّفين عبادات؛ لأنّهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذلّلين لله تعالى «٣» .

قال العلّامة ابن القيّم- رحمه الله-: التّحقيق بمعنى قوله (إنّي عبدك) : التزام عبوديّته من الذّلّ والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيّده واجتناب نهيه ودوام الافتقار إليه، واللّجوء إليه والاستعانة به، والتّوكّل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وأن لا يتعلّق قلبه بغيره محبّة وخوفا ورجاء. وفيه أيضا: أنّي عبد من جميع الوجوه: صغيرا وكبيرا، حيّا وميّتا مطيعا وعاصيا، معافى ومبتلى، بالرّوح والقلب واللّسان والجوارح، وفيه أيضا: أنّ مالي ونفسي ملك لك؛ فإنّ العبد وما يملك لسيّده. وفيه أيضا: أنّك أنت الّذي مننت عليّ بكلّ ما أنا فيه من نعمة فذلك كلّه من إنعامك على عبدك. وفيه أيضا: أنّي لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي إلّا بأمرك، كما لا يتصرّف العبد إلّا بإذن سيّده، وإنّي لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فإن صحّ له شهود ذلك فقد قال: إنّي عبدك حقيقة.

ثمّ قال: ناصيتي بيدك، أي أنت المتصرّف فيّ تصرّفني كيف تشاء، لست أنا المتصرّف في نفسي.

وكيف يكون له في نفسه تصرّف من نفسه بيد ربّه وسيّده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كلّه إليه سبحانه ليس إلى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيّده أضعف من مملوك ضعيف حقير، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له، تحت تصرّفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.

ومتى شهد العبد أنّ ناصيته ونواصي العباد كلّها بيد الله وحده يصرّفهم كيف يشاء، لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجهم، ولم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد


(١) مفردات الراغب (٣١٨) .
(٢) انظر نزهة الأعين النواظر (٤٣١، ٤٣٢) .
(٣) فتح المجيد (١٨) .