للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال الجنيد: الخشوع تذلّل القلوب لعلّام الغيوب.

قال ابن القيّم- رحمه الله-: والحقّ أنّ الخشوع معنى يلتئم من التّعظيم والمحبّة والذّلّ والانكسار «١» .

وحكى ابن حجر عن الفخر الرّازيّ في تفسيره أنّ الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسّكون، وقيل: لا بدّ من اعتبارهما، وقال غيره: هو معنى يقوم بالنّفس يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة.

[درجات الخشوع:]

قال ابن القيّم: قال صاحب المنازل: وهو أي الخشوع على ثلاث درجات:

الأولى: التّذلّل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتّضاع لنظر الحقّ. أمّا التّذلّل للأمر فهو تلقّيه بذلّة القبول والانقياد والامتثال مع مواطأة الظّاهر الباطن، وإظهار الضّعف، والافتقار للهداية. وأمّا الاستسلام للحكم فيشمل الحكم الشّرعيّ بعدم معارضته برأي أو شهوة، كما يشمل الحكم القدريّ بعدم تلقّيه بالتّسخّط والكراهة والاعتراض، وأمّا الاتّضاع لنظر الحقّ فهو اتّضاع القلب والجوارح، وانكسارها لنظر الرّبّ إليها واطّلاعه على تفاصيل ما فيها.

الثّانية: ترقّب آفات النّفس والعمل، ورؤية فضل كلّ ذي فضل، ويتحقّق ذلك بانتظار ظهور نقائص نفسك وعملك وعيوبها لك، وذلك يجعل القلب خاشعا لا محالة لمطالعة عيوب نفسه وأعماله ونقائصهما من الكبر والعجب، وضعف الصّدق، وقلّة اليقين، وتشتّت النّيّة، أمّا رؤية فضل كلّ ذي فضل فيتحقّق بمراعاة حقوق النّاس وأدائها، ولا ترى أنّ ما فعلوه من حقوقك عليهم؛ فلا تعاوضهم عليها، فإنّ هذا من رعونات النّفس وحماقاتها، ولا تطالبهم بحقوق نفسك، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة يقول: العارف لا يرى له على أحد حقّا، ولا يشهد له على غيره فضلا، ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب.

الثّالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية القلب من مراءاة الخلق، ويعني ذلك ضبط النّفس بالذّلّ والانكسار عن البسط والإذلال الّذي تقتضيه المكاشفة لأنّها توجب بسطا يخاف منه شطح إن لم يصحبه خشوع يحفظ الحرمة. مع إخفاء أحواله عن الخلق جهده «٢» .

[من معاني كلمة الخشوع في القرآن:]

ذكر بعض المفسّرين أنّ الخشوع في القرآن على أربعة أوجه:

أحدها: الذّلّ. ومنه قوله تعالى في طه:

وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ (آية/ ١٠٨) .


(١) مدارج السالكين لابن القيم (١/ ٥٥٨- ٥٥٩) بتصرف، وفتح الباري (٢/ ٢٦٤) .
(٢) مدارج السالكين (١/ ٥٥٩- ٥٦٠) باختصار وتصرف يسير.