للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صدقا، روى ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: «لمّآ نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ... (الشعراء/ ٢١٤) صعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصّفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عديّ» لبطون قريش حتّى اجتمعوا، فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ؟» . قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .

فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟

فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (المسد/ ١- ٢) .

وقد كان الصّدق من خصائص أقواله صلّى الله عليه وسلّم، يقول صاحب جلاء الأفهام ما خلاصته: لقد كان صلّى الله عليه وسلّم محفوظ اللّسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون إلى الكذب منسوبا وللصّدق مجانبا..

وكانت قريش كلّها تعرف عنه ذلك، ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرّسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرّسالة، ومن لزم الصّدق في صغره كان له في الكبر ألزم، ومن عصم منه في حقّ نفسه كان في حقوق الله أعصم «١» .

وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه «الصّادق المصدوق» «٢» ، وصدق الله- عزّ وجلّ- إذ قال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (النجم/ ٢- ٤) .

تسمية أبي بكر- رضي الله عنه- بالصّدّيق:

لمّا كان حادث الإسراء والمعراج، وأخبر به المصطفى صلّى الله عليه وسلّم قريشا، اختلف النّاس بين مصدّق ومرتاب، ومندهش ومتحيّر، وقد ارتدّ نفر عن الإسلام عند ما حكّموا عقولهم القاصرة، وتجاربهم الّتي ألفوها، لكنّ أبا بكر عند ما أخبر بذلك لم يخالجه شكّ أو يقع في نفسه ريب وأعلن بملء فيه أنّ الرّسول صادق فيما أخبر به، وقد روى الحاكم في المستدرك عنه قوله: «لئن قال ذلك لقد صدق» . فتعجّبوا وقالوا: أو تصدّقه أنّه ذهب اللّيلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ فقال: «وما يعجّبكم من ذلك! فو الله إنّي لأصدّقه بما هو أبعد من ذلك، أصدّقه في خبر السّماء في غدوة أو روحة» ثمّ أقبل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن وصفه، وكلّما ذكر شيئا قال: صدقت. أشهد أنّك رسول الله، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وأنت يا أبا بكر الصّدّيق» «٣» فمنذئذ سمّي بالصّدّيق، وقيل سمّي بالصّدّيق لتصديقه هذه الواقعة حين كذّبها النّاس «٤» .


(١) انظر: الخصلة السادسة من فضائل أقواله صلّى الله عليه وسلّم (٤٤٣) من هذه الموسوعة.
(٢) انظر الحديث رقم (٣٦) الذي جاء فيه عن أبي هريرة- رضي الله عنه- «سمعت الصّادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم ... » .
(٣) المستدرك (٣/ ٦٢- ٦٣) ، وانظر أيضا سيرة ابن هشام (١/ ٣٩٩) .
(٤) الرحيق المختوم (٢٧) .