للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نزول الوحي والبعثة النبوية:]

بدأ نزول الوحي على محمد صلّى الله عليه وسلّم وعمره أربعون سنة «١» . وقصة بدء نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ثابتة بنص الصحيحين من حديث عروة بن الزبير، فعن عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- أنها قالت: «كان أول ما بديء به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب

إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقاريء. قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقاريء فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «٢» .

فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: زمّلوني زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي، وأخبرها الخبر.

فقالت خديجة: «كلّا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى- وهو ابن عم خديجة أخي أبيها- وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا «٣» . ثم لم ينشب ورقة أن توفّي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أو فى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد: إنك رسول الله حقّا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي، غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك» «٤» .

لقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم ونزول صدر سورة «اقرأ» نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الاعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، طريق الله المستقيم المؤدي إلى النجاة في الدنيا والآخرة.


(١) البخاري (فتح الباري) ج ٦/ ٥٦٤، ٧/ ١٦٢، ٢٢٧، ١٠/ ٣٥٦ (كتاب المناقب) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) ٤/ ١٨٢٤، ١٨٢٧، ابن هشام- السيرة ١/ ٢٥١- ٢٥٢.
(٢) سورة العلق/ ١- ٥.
(٣) البخاري (فتح الباري) ١/ ٣٠- ٣١، كتاب بدء الوحي (حديث رقم ٣) ، ٨/ ٥٨٥- ٦ كتاب التفسير (حديث رقم ٤٩٥٣) ، مسلم- الصحيح (شرح النووي) ٢/ ١٩٧- ٢٠٤.
(٤) البخاري- الصحيح ٨/ ٦٧، (فتح الباري ١/ ٢٢، ٨/ ٧١٥، ٧٢٢، ١٢/ ٣٥١- ٢) ، مسلم- الصحيح ١/ ١٣٩.