للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحالة التي يجب أن يكون عليها الواعظ:]

قال الرّاغب: حقّ الواعظ أن يتّعظ ثمّ يعظ، ويبصر ثمّ يبصّر، ويهتدي ثمّ يهدي، ولا يكون كدفتر يفيد ولا يستفيد، ويجب ألا يجرح مقاله بفعاله، وألّا يكذّب لسانه بحاله، فيكون ممّن وصفهم الله تعالى بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. إلى قوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (البقرة/ ٢٠٤، ٢٠٥) ، ونحو ما قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «قصم ظهري رجلان: جاهل متنسّك وعالم متهتّك، فالجاهل يغرّ النّاس بتنسّكه، والعالم ينفّرهم بتهتّكه» والواعظ ما لم يكن مع مقاله فعاله لا ينتفع به، وذلك أنّ عمله يدرك بالبصر، وعلمه يدرك بالبصيرة، وأكثر النّاس هم أصحاب الأبصار دون البصائر، فيجب أن تكون عنايته بإظهار عمله الّذي يدركه جماعتهم أكثر من عنايته بالعلم الّذي لا يدركه سوى أصحاب البصائر منهم.

ومنزلة الواعظ من الموعوظ كمنزلة المداوي، فكما أنّ الطّبيب إذا قال للنّاس: لا تأكلوا هذا، فإنّه سمّ قاتل. ثمّ رأوه آكلا له عدّ سخرية وهزأ، كذلك الواعظ إذا أمر بما لا يعمله. وبهذا النّظر قيل يا طبيب طبّب نفسك. بل قد قال تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (الصف/ ٢ ٣) إلى غير ذلك من الآيات. وأيضا فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطّبائع بما ليس منتقشا بها، فكما أنّه محال أن ينطبع الطّين بما ليس منتقشا في الطّابع، كذلك محال أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس بموجود في نفس الواعظ، فإذا لم يكن الواعظ إلّا ذا قول مجرّد من الفعل لم يتلقّ عنه الموعوظ إلّا القول دون الفعل، وأيضا فإنّ الواعظ يجري من النّاس مجرى الظّلّ من ذي الظّلّ، فكما أنّه محال أن يعوجّ ذو الظّلّ والظّلّ مستقيم، كذلك من المحال أن يعوجّ الواعظ والموعوظ مستقيم. وكذلك النّار والأرض والهواء.

فالواعظ إذا كان غاويا جرّ بغيّه غيره إلى نفسه، ولهذا حكى الله تعالى عن الكفّار قولهم: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا (القصص/ ٦٣) وقال أيضا فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (الصافات/ ٣٢) .

فمن ترشّح للوعظ ثمّ فعل فعلا قبيحا اقتدى به غيره فقد جمع بين وزره ووزرهم كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ (النحل/ ٢٥) الآية. وقد قال- عليه السّلام- «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» بل قد قال الله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (الأنعام/ ٣١) «١» .

[تفسير الحكمة والموعظة الحسنة:]

قال ابن القيّم- رحمه الله-: «وإنّما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء: شدّة الافتقار إليها


(١) الذريعة إلى مكارم الشريعة (٢٥٤، ٢٥٦) .