للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أين ينشأ عظم الهمة؟:]

يتربّى عظم الهمّة من طريق الاقتداء، أو من طريق تلقين الحكمة وبيان فضل عظم الهمّة وما يكسب صاحبه من سؤدد وكمال، أو من طريق درس التّاريخ والنّظر في سير أعاظم الرّجال، فإنّا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الّذين يلهج التّاريخ بأسمائهم لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على هذا الخلق الّذي نسمّيه (عظم الهمّة) ، والقرآن يملأ النّفوس بعظم الهمّة، وهذا العظم هو الّذي قذف بأوليائه ذات اليمين وذات الشّمال، فأتوا على عروش كانت ظالمة، ونسفوها من وجه البسيطة نسفا ثمّ رفعوا لواء العدل والحرّيّة، وفجّروا أنهار العلوم تفجيرا، وإذا رأينا من بعض قرّائه همما ضئيلة ونفوسا خاملة فلأنّهم لم يتدبّروا آياته، ولم يتفقّهوا في حكمه.

[فضل عظم الهمة:]

قال الماورديّ- رحمه الله-: اعلم أنّ من شواهد الفضل، ودلائل الكرم: المروءة الّتي هي حلية النّفوس، وزينة الهمم.

ومن حقوق المروءة وشروطها، ما لا يتوصّل إليه إلّا بالمعاناة، ولا يوقف عليه إلّا بالتّفقّد والمراعاة، فثبت أنّ مراعاة النّفس إلى أفضل أحوالها هي المروءة، وإذا كانت كذلك، فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها، إلّا من تسهّلت عليه المشاقّ، رغبة في الحمد، وهانت عليه الملاذّ، حذرا من الذّمّ، ولذلك قيل: سيّد القوم أشقاهم.

وقال الشّاعر:

وإذا كانت النّفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام

والدّاعي إلى استسهال ذلك شيئان: أحدهما: علوّ الهمّة، والثّاني: شرف النّفس. أمّا علوّ الهمّة، فلأنّه باعث على التّقدّم، وداع إلى التّخصيص، أنفة من خمول الضّعة، واستنكارا لمهانة النّقص «١» .

يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجّه به إلى النّهايات من معالي الأمور فهو الّذي ينهض بالضّعيف يضطهد أو يزدرى، فإذا هو عزيز كريم، وهو الّذي يرفع القوم من سقوط، ويبدّلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرّيّة، وبالطّاعة العمياء شجاعة أدبيّة. نعم! يورد هذا الخلق صاحبه موارد التّعب والعناء، ولكن التّعب في سبيل الوصول إلى النّهاية من معالي الأمور يشبه الدّواء المرّ فيسيغه المريض كما يسيغ الشّراب عذبا باردا، وعظيم الهمّة قد يشتدّ حرصه على الشّرف حتّى لا يكاد يشعر بما يلاقيه في سبيله من أنكاد وأكدار «٢» .

قال الشّيخ الخضر حسين- رحمه الله-:

وممّا جبل عليه الحرّ الكريم، ألايقنع من شرف الدّنيا والآخرة بشيء ممّا انبسط له، أملا فيما هو أسنى


(١) أدب الدنيا والدين للماوردي (٣٠٦- ٣٠٧) .
(٢) وسائل الإصلاح للخضر حسين (٨٥- ٩٥) باختصار.