للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين الجهل والغرور:]

قال الغزاليّ: الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشّيء ويراه على خلاف ما هو به، ولكن ليس كلّ جهل غرورا.

إذ الغرور يستدعي مغرورا فيه ومغرورا به، وهو الّذي يغرّه، ومهما كان المجتهد المعتقد شيئا يوافق الهوى، وكان السّبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة فاسدة يظنّ أنّها دليل، ولا تكون دليلا سمّي الجهل الحاصل به غرورا، فالغرور- كما سبق- هو سكون النّفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطّبع عن شبهة وخدعة من الشّيطان، فمن اعتقد أنّه خير إمّا في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر النّاس يظنّون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر النّاس على ذلك مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم (فيه) حتّى كان غرور بعضهم أظهر وأشدّ من بعض «١» .

[أنواع الغرور:]

قال الغزاليّ: أظهر أنواع الغرور وأشدّها غرور الكفّار وغرور العصاة والفسّاد وأورد- رحمه الله تعالى- لهذين النّوعين وكشف عن كيفيّة معالجتهما على النّحو الّذي نلخّصه فيما يلي:

المثال الأوّل: غرور الكفّار، فمنهم من غرّته الحياة الدّنيا، ومنهم من غرّه بالله الغرور، أمّا الّذين غرّتهم الحياة الدّنيا: فهم الّذين قالوا: النّقد خير من النّسيئة «٢» ، والدّنيا نقد والآخرة نسيئة، فهي إذن خير (منها) فلابدّ من إيثارها، وقالوا أيضا: اليقين خير من الشّكّ ولذّات الدّنيا يقين ولذّات الآخرة شكّ فلا نترك اليقين بالشّكّ.

وعلاج هذا الغرور إمّا بتصديق الإيمان وإمّا بالبرهان: فأمّا التّصديق بالإيمان فهو أن يصدّق الله تعالى في قوله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ (النحل: ٩٦) . وقوله عزّ وجلّ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (الضحى/ ٤) ، وأمّا المعرفة بالبيان والبرهان، فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الّذي نظمه في قلبه الشّيطان. وهذا القياس الّذي نظمه الشّيطان فيه أصلان: أوّلا: أنّ النّقد خير من النّسيئة وأنّ الدّنيا نقد والآخرة نسيئة.. فهذا محلّ التلبيس لأنّ الأمر ليس كذلك، بل إن كان النّقد مثل النّسيئة في المقدار والمقصود فهو خير، وإن كان أقلّ منها فالنّسيئة خير، ولذلك فإنّ الكافر المغرور يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة.. ولا يقول النّقد خير من النّسيئة فلا أتركه، والإنسان إذا حذّره الطّبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفا من ألم المرض في المستقبل. ثانيا: أنّ اليقين خير من الشّكّ، فهذا القياس أكثر فسادا من الأوّل، إذ اليقين خير من الشّكّ إذا كان مثله، وإلّا فالتّاجر في تعبه علي يقين، وفي ربحه على شكّ، والمتفقّة في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شكّ، والصيّاد في تردّده في


(١) إحياء علوم الدين ٣ (٤٠٠) .
(٢) المراد بالنقد البيع المعجل، أما النسيئة فهي البيع الآجل.