وهذا القياس الخاطىء يتيقّن منه المؤمن وليقينه مدركان. أحدهما: الإيمان والتّصديق وتقليدا للأنبياء والعلماء، وذلك أيضا يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوامّ وأكثر الخواصّ، ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علّته وقد اتّفق الأطبّاء على أنّ دواءه النّبت الفلانيّ، فإنّ المريض تطمئنّ نفسه إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطّيّبة، بل يثق بقولهم ويعمل به. والخلاصة: أنّ غرور الشّيطان بأنّ الآخرة شكّ، يدفع إمّا بيقين تقليديّ، وإمّا ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن، والمؤمنون بألسنتهم وعقائدهم إذا ضيّعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصّالحة ولا بسوا الشّهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفّار في هذا الغرور لأنّهم آثروا الحياة الدّنيا على الآخرة، إلّا أنّ أمرهم أخفّ لأنّ أهل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد فيخرجون من النّار ولو بعد حين. ولكنّهم أيضا من المغرورين الّذين آثروا الحياة الدّنيا، ومجرّد الإيمان لا يكفي للفوز، قال تعالى:
بقولهم: إنّ الله كريم وإنّا نرجو عفوه، واتّكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال، وتحسين ذلك بتسمية تمنّيهم واغترارهم رجاء وظنّهم أنّ الرّجاء مقام محمود في الدّين، وأنّ نعمة الله واسعة ورحمته شاملة ويرجونه بوسيلة الإيمان. فإن قلت فأين الغلط في قولهم هذا، وقد قال المولى أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي خيرا فهذا كلام صحيح مقبول في الظّاهر ولكن اعلم أنّ الشّيطان لا يغوي الإنسان إلّا بمثل هذا ولولا حسن الظّاهر لما انخدع به القلب، ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كشف عن ذلك فقال:«الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله» ، وهذا التّمنّي على الله غيّر الشّيطان اسمه فسمّاه رجاء حتّى خدع به الجهّال، وقد شرح الله الرّجاء فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ (البقرة/ ٢١٨) يعني أنّ الرّجاء بهم أليق، لأنّ ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال فقد قال تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران ١٨٥) ، فلو أنّ شخصا استؤجر لإصلاح شيء وشرط له أجرة، وكان الشّارط كريما بما يفي بالوعد ويزيد عليه، فجاء الأجير وأخذ هذا الشّيء ثمّ جلس ينتظر الأجر بزعم أنّ المستأجر كريم، أفيرى العامل ذلك تمنّيا وغرورا أم رجاء؟
وهذا للجهل بالفرق بين الرّجاء والغرّة، وقد قيل للحسن: قوم يقولون نرجو الله ويضيّعون العمل، فقال: هيهات هيهات تلك أمانيّهم يترجّحون فيها، من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه.
فإن قلت فأين مظنّة الرّجاء وموضعه المحمود:
فاعلم أنّه محمود في موضعين:
أحدهما في حقّ العاصي المنهك إذا خطرت له التّوبة فيقنّطه الشّيطان، هنا يقمع القنوط بالرّجاء، ويتذكّر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً