للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الواحدة تأمّلا وإن كان يمكن أن تكون من قبيل التّفكّر.

وإذا انتقلنا إلى التّدبّر وجدناه يعني (اصطلاحا) النّظر في عواقب الأمور وما تصير إليه الأشياء أي إنّه يتجاوز الحاضر إلى المستقبل لأنّ التّدبّر يعني التّفكير في دبر الأمور ومن ثمّ عرّفه الجرجاني بأنّه عبارة عن النّظر في عواقب الأمور «١» ، وكلّ من التّدبّر والتّفكّر من عمل القلب وحده إلّا أنّ التّفكّر تصرّف القلب بالنّظر في الدّليل والتّدبّر تصرّفه بالنّظر في العواقب، وكلاهما لا يشترط فيه الدّيمومة أو الاستمرار بخلاف التّأمّل، وهناك فرق جوهريّ آخر بين التّأمّل وكلّ من التّفكّر والتّدبّر يتمثّل في أنّ التّأمّل قد يحدث بالبصر وحده أو بالبصر يعقبه التّفكّر، أمّا التّفكّر والتّدبّر فبالبصيرة وحدها إذ هما من أعمال القلب (أو العقل) .

والخلاصة أنّ التّأمّل قد يكون بالبصر مع استمرار وتأنّ يؤدّي إلى استخلاص العبرة، وأنّ التّفكّر جولان الفكر في الأمر الّذي تكون له صورة عقليّة عن طريق الدّليل. أمّا التّدبّر؛ فإنّه يعني النّظر العقليّ إلى عواقب الأمور.

وهكذا رأينا أنّ هذه المعاني الثّلاثة وإن كانت متقاربة إلّا أنّها ليست واحدة وإذا ذكر بعض أهل العلم أنّها مترادفة فإنّما يقصد فقط التّرادف الجزئيّ الّذي قد يوجد في بعض الأحيان دون بعضها الاخر.

[التأمل في القرآن الكريم:]

لم يرد لفظ التّأمّل في القرآن الكريم صراحة ولكن أشارت إليه عديد من الايات الّتي تأمر بالنّظر في خلق الله والتّثبّت في رؤية عجائب الكون وآثار السّابقين، وقد نعت آيات كثيرة على المشركين عدم تأمّلهم فيما تشاهده أعينهم ويقع تحت أيديهم من عجائب صنع الله، وقد اقترنت آيات كثيرة بالأفعال «يروا، ينظروا» بصيغة المضارع الّتي تدلّ على الاستمرار وإدامة الرّؤية أو النّظر. مثال ذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت/ ١٩، ٢٠) .

إنّ التّأمّل الّذي دعا إليه القرآن الكريم ونعى على الكفّار والمشركين عدم تنبّههم له وغفلتهم عنه ممّا جعلهم في غيّهم يعمهون، يتعلّق بأشياء كثيرة منها:

التّأمّل في عجائب صنع الله- عزّ وجلّ- ومنها التّأمّل في خلق الإنسان، ومنها التّأمّل في إحياء الله الأرض بعد موتها، ومنها التّأمّل في آثار الأمم السّابقة، وقد كان تأمّل ذلك حريّا بأن يردّهم إلى الصّواب ويحملهم على التّصديق بالوحدانيّة والإيمان بالبعث، ولكن أنّى لهم ذلك، وقد صاروا كالبهائم الّتي لا عقل لها فلا تستنبط شيئا ممّا تراه الأعين، ولو كانوا يعقلون لما فاتهم استخلاص العبر والوصول إلى


(١) التعريفات (٥٦) .