للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً «١» .

واشتدت الرياح الباردة العاصفة العاتية، فاقتلعت خيام المشركين، وأطفأت نيرانهم، وقلبت قدورهم، ودفنت رحالهم، وكان لذلك مع طول فترة الحصار وعدم جدوى الانتظار عوامل أسهمت في انهيار معنويات الأحزاب «٢» . وحين انتدب الرسول صلّى الله عليه وسلّم حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبر الأحزاب، فإنه عاد وأخبره بتفرق الناس عن أبي سفيان، وأنه لم يبق معه إلّا عصبة قليلة «٣» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يديم الدعاء خلال الحصار فيقول: «اللهمّ منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وزلزلهم» «٤» .

واستجاب الله سبحانه لدعاء نبيه فأعزّ جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وتنفس المسلمون الصعداء: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً «٥» .

لقد بذلت قريش ومن حالفها أقصى طاقاتهم من أجل القضاء على الدعوة الإسلامية واستئصال شأفة المسلمين، ولكن الله تعالى ردهم خائبين. وقد ترتّب على ذلك الفشل آثار خطيرة تمثلت في تغير ميزان القوى لصالح المسلمين، وذلك ما عبّر عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم» «٦» . وذلك يعكس التغير الجذري في سياسة الدولة الإسلامية من اتباع سياسة الدفاع عن المدينة، إلى مرحلة الهجوم والتهديد، وذلك يشير بوضوح إلى أن مناطق الصراع قد انتقلت في أعقاب هذه الغزوة إلى مناطق أخرى مثل مكة وما حولها، وتبوك، وغيرهما بعيدا عن المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية.

[غزوة بني قريظة:]

كان نقض بني قريظة لوثيقة العهد التي أبرموها مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند حصار قوات الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق وإصرارهم على خيانة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، وتعريضهم أمن وسلامة المسلمين ودولتهم للخطر، السبب في هذه الغزوة، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بقتالهم بعد انسحاب الأحزاب وانتهاء الحصار والخطر وعودته بالمسلمين من الخندق ووضعهم السلاح «٧» . وقد وقعت الغزوة في أول ذي الحجة سنة ٥ هـ «٨» . حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالتوجه إلى ديار بني قريظة ومحاصرتهم، وبأن الله سبحانه وتعالى قد أرسل جبريل- عليه السلام-


(١) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ ٩.
(٢) مسلم- الصحيح ٣/ ١٤١٤- ١٤١٥ (حديث ١٧٨٨) .
(٣) المرجع السابق ٣/ ١٤١٥، ابن هشام- السيرة ٢/ ٢٣٠، الحاكم- المستدرك ٣/ ٣١، الهيثمي- كشف الأستار ٢/ ٣٣٥، مجمع الزوائد ٦/ ١٣٦.
(٤) مسلم- الصحيح ٣/ ١٣٦٣ (حديث ١٧٤٢) .
(٥) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ ٢٥.
(٦) البخاري- الصحيح ٥/ ٤٨ (الأحاديث ٤١٠٩، ٤١١٠) وشرحه ابن حجر، ورواه ابن إسحاق بلاغا، ابن هشام- السيرة ٣/ ٣٥٢.
(٧) البخاري- الصحيح ٣/ ٣٠٦، مسلم- الصحيح ٧/ ١٣٨.
(٨) ابن سعد- الطبقات ٣/ ٧٤، ابن هشام- السيرة ٣/ ٧١٥، الطبري- تاريخ ٣/ ٥٩٣، ابن سيد الناس- عيون الأثر ٣/ ٦٨.