للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفتح، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم واقفا براحلته «بكراع الغمام» ، فأسرع الناس إليه، فقرأ عليهم قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «١» .

فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح» «٢» ، وأورد البخاري برواية صحيحة»

أن أصحابه قالوا: هنيئا مريئا فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً «٤» ، فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح وحبور، وأدركوا أنهم لا يمكنهم أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن الخير كله هو في التسليم لأمر الله ورسوله.

ولقد أتاحت الهدنة المبرمة بين الطرفين للمسلمين فرصة التفرغ لتصفية آخر معاقل يهود في خيبر والتي كانت بؤرة تحريض ومكر ضد الدعوة الإسلامية، كما أتاحت لهم فرصة التفرغ لنشر الإسلام في بطون القبائل، وذلك ما عمل على التعجيل بنشر عقيدة التوحيد على نطاق واسع وهذا ما عناه الزهري في قوله عن صلح الحديبية: «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك» «٥» وقد ساق ابن هشام في السيرة الدليل على صحة قول الزهري ودقته فقال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» «٦» .

[فترة ما بين الحديبية وفتح مكة:]

ما إن عاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون إلى المدينة، حتى جاءه أبو بصير مسلما فارّا من قريش. وقد أرسلت قريش اثنين من رجالها مطالبة النبي صلّى الله عليه وسلّم بتنفيذ بنود صلح الحديبية بشأنه، فسلمه النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهما، غير أن أبا بصير سرعان ما تمكن من قتل أحد الرجلين وهم في طريق العودة إلى مكة، وفر ثانيهما إلى المدينة وخلفه أبو بصير، فلما انتهى إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال أبو بصير: «قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجّاني الله منهم» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويل أمّه، مسعر حرب لو كان له أحد» !. فلما سمع أبو بصير مقالة النبي صلّى الله عليه وسلّم عرف أنه سيرده ثانية إلى


(١) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ ١، البخاري- الصحيح (فتح الباري: حديث ٤١٧٢) ، وفيه أوضح قتادة رواية عن أنس- رضي الله عنه- أن تفسيره الفتح بالحديبية مأخوذ عن أنس.
(٢) أبو داود- سنن، كتاب الجهاد (م ٢٧٣٦) ، أحمد- المسند ٣/ ٤٢٠.
(٣) البخاري- الصحيح (فتح الباري، حديث ٤١٧٢) .
(٤) القرآن الكريم- سورة الفتح، الآية/ ٥.
(٥) ابن هشام- السيرة ٣/ ٣٢٢.
(٦) المرجع السابق نفسه، والصفحة نفسها.