للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلّا بنهي النّفس عن الهوى ومخالفة الشّهوات. فالإيمان بهذا واجب. وأمّا علم تفصيل ما يترك من الشّهوات وما لا يترك فلا يدرك إلّا بطريق الشّرع. وطريق المجاهدة والرّياضة لكلّ إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كلّ واحد ما به فرحه من أسباب الدّنيا، فالّذي يفرح بالمال، أو بالجاه، أو بالقبول في الوعظ، أو بالعزّ في القضاء والولاية، أو بكثرة الأتباع في التّدريس والإفادة، فينبغي أن يترك أوّلا ما به فرحه، فإنّه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له: ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع، فكره ذلك وتألّم به فهو ممّن فرح بالحياة الدّنيا واطمأنّ بها، وذلك مهلك في حقّه. ثمّ إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل النّاس، ولينفرد بنفسه، وليراقب قلبه، حتّى لا يشتغل إلّا بذكر الله تعالى والفكر فيه. وليترصّد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس، حتّى يقمع مادتّه مهما ظهر، فإنّ لكلّ وسوسة سببا، ولا تزول إلّا بقطع ذلك السّبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقيّة العمر فليس للجهاد آخر إلّا بالموت «١» .

وقال ابن حجر- رحمه الله- في شرح المشكاة في شرح حديث ربيعة بن كعب عندما سأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المرافقة في الجنّة: جاهد نفسه بكثرة سجوده حصلت له تلك الدّرجة العليّة الّتي لا مطمع في الوصول إليها إلّا بمزيد الزّلفى عند الله في الدّنيا بكثرة السّجود المومإ إليه بقوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (العلق/ ١٩) فكلّ سجدة فيها قرب مخصوص لتكفّلها بالرّقيّ إلى درجة من درجات القرب وهكذا حتّى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم، فنتج من هذا الّذي هو على منوال قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران/ ٣١) أنّ القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحصل إلّا بالقرب من الله تعالى. وأنّ القرب من الله تعالى لا ينال إلّا بالقرب من رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتّة. ومن ثمّ أوقع تعالى متابعة رسوله بين تلك المحبّتين ليعلّمنا أنّ محبّة العبد لله ومحبّته للعبد متوقّفتان على متابعة رسوله «٢» .

[النفس التي يجب مجاهدتها:]

لا شكّ أنّ كلّا من النّفس المطمئنّة واللّوّامة، لا يصدر عنهما إلّا الأخلاق الحميدة، فعن النّفس الأولى يكون اليقين والطّمأنينة والخشوع والإخبات ونحو ذلك من الصّفات الحميدة، أمّا النّفس اللّوّامة فإنّها مبعث التّوبة والاستغفار والإنابة ونحوها، ولا يتبقّى سوى النّفس الأمّارة بالسّوء، وهي منبع الشّرور وأساس الأخلاق الذّميمة من الحسد والكبر والغضب والعدوان ونحو ذلك.

أمّا إذا نظرنا إلى قوى النّفس الغضبيّة والشّهوانيّة والنّاطقة، وهي كلّها تسمّى أيضا نفوسا فإنّها جميعا في حاجة إلى المجاهدة، لا أنّها جميعا تؤثّر في الأخلاق، محمودها ومذمومها، فالنّفس الشّهوانيّة قويّة جدّا متى لم يقهرها الإنسان ويؤدّبها ملكته واستولت عليه وانقاد لها فكان بالبهائم أشبه منه بالإنسان ومتى كان كذلك اتّصف بالفجور وغلب عليه اللهو واللّعب وارتكب الفواحش.

أمّا النّفس الغضبيّة فلا بدّ أيضا من مجاهدتها وتملّكها وإلّا كثر غضب الإنسان وظهر خرقه واشّتدّ


(١) إحياء علوم الدين (٣/ ٦٧- ٦٩) .
(٢) دليل الفالحين (١/ ٣١٨) .