للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتمكينه من أعراض الدّنيا، ولذلك قال أمير المؤمنين عليّ- رضي الله عنه- من وسّع عليه في دنياه ولم يعلم أنّه مكر به فهو مخدوع عن عقله «١» ، وقال ابن منظور:

قال أهل العلم بالتّأويل: المكر من الله تعالى جزاء سمّي باسم مكر المجازى، كما قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (الشورى/ ٤٠) فالثّانية ليست بسيّئة في الحقيقة ولكنّها سمّيت سيّئة لازدواج الكلام، وكذلك قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ (البقرة/ ١٩٤) فالأوّل: ظلم، والثّاني: ليس بظلم، ولكنّه سمّي باسم الذّنب ليعلم أنّه عقاب عليه، ويجري مجرى هذا القول قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

(النساء/ ١٤٢) .

وفي حديث الدّعاء: اللهمّ امكر لي، ولا تمكر بي، قال ابن الأثير: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه، وقيل: هو استدراج العبد بالطّاعات فيتوهّم أنّها مقبولة وهي مردودة «٢» .

وقال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ (الأعراف/ ٩٩) . أي عذابه وجزاءه على مكرهم، وقيل مكره: استدراجه بالنّعمة والصّحّة «٣» .

وأمّا قوله- عزّ وجلّ-: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران/ ٥٤) فهو من باب المقابلة على حدّ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (الشورى/ ٤٠) وقوله سبحانه: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ (المائدة/ ١١٦) ومعنى المقابلة أنّه لا يجوز أن يوصف تعالى بالمكر إلّا لأجل ما ذكر معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به.

وردّ بأنّه جاء وصف الله تعالى به من غير مقابلة في قوله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ (الأعراف/ ٩٩) على أنّ المكر «٤» ربّما يصحّ اتّصافه تعالى به، إذ هو لغة: السّتر، يقال: مكر اللّيل أي ستر بظلمته ما هو فيه، ويطلق أيضا على الاحتيال والخداع والخبث، وبهذا الاعتبار عبّر عنه بعض اللّغويّين بأنّه السّعي بالفساد، وبعضهم بأنّه صرف الغير عمّا يقصد بحيلة، وهذا الأخير إمّا محمود بأن يتخيّل في أن يصرفه إلى خير، وعليه يحمل قوله تعالى وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران/ ٥٤) وإمّا مذموم بأن يتخيّل به أن يصرفه إلى شرّ ومنه وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (فاطر/ ٤٣) «٥» .

[الأمن من مكر الله كبيرة من الكبائر:]

كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» . وفي رواية: «فقالوا: يا رسول الله أتخاف؟. قال: «إنّ القلب بين أصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبه كيف يشاء» فهو يصرّفها أسرع من ممرّ الرّيح على اختلاف في القبول والرّدّ والإرادة والكراهة وغير ذلك من الأوصاف. وفي التّنزيل: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي بينه وبين عقله حتّى لا


(١) المفردات للراغب: (ص ٤٧١) .
(٢) لسان العرب (مكر) ص ٤٢٤٧ (ط. دار المعارف) .
(٣) تفسير القرطبى ٧/ ٩٧.
(٤) بل هو وصف ثابت لله عزّ وجلّ على ما يليق بجلاله كما مرّ.
(٥) الزواجر (ص ١١٢، ١١٣) وانظر لسان العرب: مادة (مكر) .