للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله: «عدلت شهادة الزّور الشّرك بالله» وإنّما عادلته لقوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ثمّ قال بعدها: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ (الفرقان/ ٧٢) «١» . وقال أبو جعفر الطّبريّ في تفسير هذه الآية: وأصل الزّور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتّى يخيّل إلى من يسمعه أو يراه أنّه خلاف ما هو به. ويدخل فيه الغناء لأنّه أيضا ممّا يحسّنه ترجيع الصّوت حتّى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضا قد يدخل فيه لتحسين صاحبه إيّاه، حتّى يظنّ صاحبه أنّه حقّ. فكلّ ذلك يدخل في معنى الزّور «٢» .

وقال ابن حجر معقّبا على ما ذكره الإمام البخاريّ في باب ما قيل في شهادة الزّور، لقول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أشار (البخاريّ) بذلك إلى أنّ الآية سيقت في ذمّ متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار منه لأحد ما قيل في تفسيرها، وقيل: المراد بالزّور هنا الشّرك، وقيل:

الغناء، وقيل غير ذلك. قال الطّبريّ: أولى الأقوال عندنا أنّ المراد به مدح من لا يشهد شيئا من الباطل، والله أعلم «٣» .

عظم شهادة الزّور وسبب الاهتمام بها:

وقال ابن حجر في قوله صلّى الله عليه وسلّم «وجلس وكان متّكئا» يشعر بأنّه اهتمّ بذلك حتّى جلس بعد أن كان متّكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريم الزّور وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزّور أو شهادة الزّور أسهل وقوعا على النّاس، والتّهاون بها أكثر، فإنّ الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطّبع، وأمّا الزّور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرها، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزّور متعدّية إلى غير الشّاهد، بخلاف الشّرك فإنّ مفسدته قاصرة غالبا «٤» .

وقال أبو حيّان في تفسيره للآية الكريمة:

والظّاهر أنّ المعنى: لا يشهدون بالزّور، أو لا يشهدون شهادة الزّور، وقيل: المعنى لا يحضرون الزّور (من المشاهدة أي أنّ شهد هنا بمعنى شاهد) وقد اختلف في الزّور على أقوال منها: الشّرك (قاله الضّحّاك وابن زيد) ، والغناء (قاله مجاهد) ، والكذب (قاله ابن جريج) وأعياد المشركين (عن مجاهد أيضا) ومجالس الباطل (قاله قتادة) وقيل غير ذلك «٥» .

وقال الشّيخ الميدانيّ: وفي حياة النّاس نوع خطير من الكذب، شديد القبح، سيّىء الأثر ألا وهو شهادة الزّور.

إنّ الأصل في الشّهادة أن تكون سندا لجانب الحقّ، ومعينة للقضاء على إقامة العدل، والحكم على الجناة الّذين تنحرف بهم أهواؤهم وشهواتهم، فيظلمون أو يبغون، أو يأكلون أموال النّاس بالباطل، فإذا تحوّلت الشّهادة عن وظيفتها، فكانت سندا للباطل، ومضلّلة للقضاء، حتّى يحكم بغير الحقّ،


(١) مقاييس اللغة (٣/ ٣٦) ، المفردات للراغب (٢١٧) ، لسان العرب (٤/ ٣٣٦- ٣٣٧) . وانظر المصباح المنير (١/ ٩٩) . ومختار الصحاح (٢٧٨) . والنهاية في غريب الحديث (٢/ ٣١٨) .
(٢) جامع البيان في تفسير القرآن (١٩/ ٣١) .
(٣) الفتح (٥/ ٣١٠) .
(٤) المرجع السابق (٥/ ٣١١) .
(٥) تفسير البحر المحيط ٦/ ٤٧٣.