للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والعلم تترتب عليه مسئولية دينية، فالعالم يسأل عن موقفه العلمي يوم القيامة «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع خصال: ... وعن علمه ماذا عمل فيه» «١» والعالم مسئول عن نشر العلم وعدم كتمانه «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «٢» .

والعلم بحر لا ساحل له، ولا يمكن للفرد الإحاطة به، لذلك لا بد من الاستمرار في طلبه دون انقطاع، وقد أثمرت هذه القيم الثقافية حركة فكرية زاهرة حيث صار «التعلم المستمر» و «تراكم المعرفة» و «تجميع العلم» ودراسته بصورة منظمة من أبرز خصائص الحركة الفكرية في عصور الإسلام الذهبية.

وكانت الدعوة الإسلامية ترتكز على مفهوم أن العقل وحرية الفكر مناط التكليف، وطالبت أتباعها بالبحث الحر عن الدليل أو البرهان، وأنكرت تقليد الآخرين، فلم يظهر في الإسلام كهنوت يدّعي احتكار فهم الإسلام وحق تفسير نصوصه كما حدث في تاريخ الأديان الأخرى، بل بوسع كل مسلم أن يرجع إلى القرآن والسنة وأن يتضلع في علومهما ويأخذ بعد ذلك عنهما، ويناقش الآخرين في صحة الدليل وطريقة الاستدلال.

وأخيرا.. فإن التأمل في المنطلقات الفكرية للدعوة الإسلامية يكشف عن مباديء أساسية تتمثل في تحقيق العبودية لله، والكرامة والحرية والعلم والعدل والمساواة والشورى «٣» للإنسان الذي يتجه إليه الخطاب الإسلامي في مطلق الزمان والمكان.

[مرحلة الدعوة السرية:]

بدأت الدعوة الإسلامية بمكة المكرمة بشكل سري وتتراوح مدة هذه المرحلة بين ثلاث وأربع سنوات «٤» . وكانت مكة تخضع لقريش بعشائرها الأربع عشرة التي كان لكل منها كيانها الخاص مع تحالفها ضمن الإطار العام لقبيلة قريش. وكان من المتوقع أن ينتشر الإسلام في عشيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم في قريش التي ينتمي إليها أخيرا، غير أن انتشار الإسلام لم يرتبط بالعشائرية ولا بالعصبية القبلية. ورغم أن بني هاشم قد تعاطفوا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن ذلك لم يدفعهم إلى الدخول في الإسلام أكثر من غيرهم. وانتشر الإسلام في هذه المرحلة في سائر عشائر قريش بشكل متوازن وهو أمر يخالف طبيعة الحياة البدوية والنظرة القبلية. ولعل ذلك قد أعان على انتشار الإسلام بين مختلف العشائر دون تحفظات عصبية، ولو دققنا في انتماءات كل من أبي بكر الصديق التيمي، وعثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعلي بن أبي طالب الهاشمي، ومصعب بن عمير الداري،


(١) أبو داود- السنن ٣/ ٣٢٣، وابن ماجه- السنن ١/ ٩٣. وقال محقق «جامع الأصول» (١٠/ ٤٣٦) : وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(٢) أبو داود- السنن ٣/ ٣٢١، والترمذي- الجامع ٥/ ٢٩. وقال محقق «جامع الأصول» (/ ١٢) : وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو كما قال، وله شاهد عند الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ووافقه الذهبي.
(٣) انظر الصفات الخاصة بهذه الأمور في مواضعها من الموسوعة.
(٤) المرويات التي أوردها ابن إسحاق والواقدي حددت الفترة بثلاث سنين: ابن سعد- الطبقات ١/ ١٩٩، ابن هشام- السيرة النبوية ١/ ٢٦٢، وحددها البلاذري في أنساب الأشراف (١/ ١١٦) بأربع سنين.