للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يمكن الجمع بين كونهم ذهبوا يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيّا لجهينة «١» ، ومما يقوي ذلك ما أورده الإمام مسلم في الصحيح أن البعث كان إلى أرض جهينة «٢» .

غزوة الحديبية «٣» :

وفي يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة ٦ هـ «٤» ، خرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة متوجها بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة «٥» . وقد كشف بذلك عن حقيقة النظرة الإسلامية إلى البيت العتيق، والمشاعر الإسلامية نحوه وتعظيمهم لشعائر الله في حجه وعمرته. وكان ذلك في الوقت نفسه إظهارا لخطل دعاية قريش المعادية التي حاولت عبر فترة الصراع أن تبثها بين بطون القبائل والتي أرادت أن تظهر أنّ المسلمين لا يعترفون بمكانة البيت العتيق وحرمته. على أن هذا التوجه نحو أداء العمرة من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، وخططهم في الوصول إلى مكة ودخولها لأداء النسك قد أحرج قريشا إلى درجة كبيرة وخصوصا أن ذلك يأتي في أعقاب فشل غزوة الأحزاب وانهيار التحالفات القرشية مع القبائل الأخرى ومع يهود. وهي تبرز بوضوح وجلاء قوة المسلمين واستعلائهم في نظر العرب، في نفس الوقت الذي تخطّل فيه جميع الدعايات القرشية المعادية للمسلمين وأوقعت قريشا في الحرج الشديد، فهي إما أن تسمح للمسلمين وعلى رأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة، فيتحقق العرب من ضعفها وكذب دعاياتها، وإما أن تعارض ذلك، فتصد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين عن دخول مكة وأداء العمرة، وبذلك ينكشف زيف ادعائها بالحرص على البيت العتيق وحرمته، ويتحدث العرب عن صد قريش لمن قصدوا تعظيمه وتكريمه والحج إليه، وكانت جميع هذه المعاني ماثلة أمام زعماء قريش حين واجهوا هذا الحدث الكبير.

أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد كان قد أعد للأمر عدته، وأدخل في اعتباره أن تقدم قريش على صده وأصحابه عن الوصول إلى مكة وأداء العمرة، بل حتى مقاتلته ومن معه، ولذلك عزم على الخروج بأكبر عدد ممكن من المسلمين، ولذلك فإنه استنفر المسلمين من أهل البادية، غير أنهم أبطئوا عليه وتعلل بعضهم بأعذار شتى كشفها القرآن الكريم: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً* بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ


(١) ابن حجر- فتح الباري ٨/ ٩٧.
(٢) مسلم- الصحيح/ ١٥٣٧ (حديث ١٩٣٥) .
(٣) موضع فيه بئر يقع على مشارف مكة الشمالية الغربية وعلى مسافة تزيد على عشرين كيلا من المسجد الحرام. وجعلها ابن هشام: «أمر الحديبية» على اعتبار أن الأصل في ذلك الخروج للعمرة وليس للغزو، وقد سميت بالغزوة بها لأن قريشا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية (السيرة ٣/ ٤٢٧) .
(٤) أجمع أهل العلم على تاريخها بلا خلاف. وقد رواه الزهري وموسى بن عاقبة وقتادة، كما في دلائل النبوة للبيهقي ٣/ ٩١، وانظر: النووي- المجموع ٧/ ٧٨.
(٥) البخاري- الصحيح (فتح الباري- حديث ٤١٧٩) .