للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ينصف النّاس من لا ينصف نفسه.

أن ينصف المرء خالقه عزّ وجلّ، حيث لا يتصوّر أن ينصف المخلوقين من لا ينصف الخالق عزّ وجلّ.

إنصاف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

إنصاف العباد.

وسوف نتحدّث عن هذه الأنواع المختلفة بإيجاز فيما يلي:

أوّلا: إنصاف المرء نفسه من نفسه:

إنّ أولى درجات الإنصاف، أن يكون الإنسان منصفا نفسه لأنّ من لم يفعل ذلك لا يستطيع إنصاف غيره انطلاقا من القاعدة المعروفة [فاقد الشّيء لا يعطيه] يقول ابن القيّم- رحمه الله تعالى- ويدخل في الإنصاف: إنصاف المرء نفسه من نفسه، بألّا يدّعي لها ما ليس لها، ولا يخبّثها بتدنيسه لها، وتصغيره إيّاها وتحقيرها بمعاصي الله عزّ وجلّ، بل ينمّيها ويكبّرها ويرفعها بطاعة الله وتوحيده، وحبّه وخوفه ورجائه، والتّوكّل عليه، والإنابة إليه، وإيثار مرضاته على مراضي الخلق ومحابّهم.. إنّ إنصاف المرء نفسه من نفسه يوجب عليه معرفة ربّه وحقّه عليه، ومعرفة نفسه، وما خلقت له، وألّا يزاحم بها مالكها وفاطرها ويدّعي لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مراد سيّده، ويدفعه بمراده هو، أو يقدّم مراده (كالشّهوات مثلا) ويؤثره على مراد مولاه، أو يقسم إرادته بين مراد سيّده ومراده هو، وهذه قسمة ضيزى مثل قسمة الّذين قالوا: هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (الأنعام/ ١٣٦) . فلينظر العبد ألّا يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه (من ناحية) ، وبين الله عزّ وجلّ (من ناحية أخرى) . وإلّا يفعل لبّس عليه وهو لا يشعر، وكيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه؟ فظلمها أقبح الظّلم، وسعى في ضررها أعظم السّعي، ومنعها أعظم لذّاتها من حيث ظنّ أنّه يعطيها إيّاها فأتعبها كلّ التّعب، وأشقاها كلّ الشّقاء من حيث ظنّ أنّه يريحها ويسعدها، وجدّ كلّ الجدّ في حرمانها حظّها من الله عزّ وجلّ وهو يظنّ أنّه ينيلها حظوظها، كيف يرجى الإنصاف (للغير) ممّن هذا إنصافه لنفسه؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه، فماذا تراه بالأجانب يفعل؟ «١» .

ثانيا: إنصاف الله- عزّ وجلّ-:

قال ابن القيّم: «طوبى لمن أنصف ربّه فأقرّ له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتّفريط في حقّه، والظّلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منّته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنّة وصدقة ثانية، وإن ردّها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيّئة رآها من تخلّيه عنه وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربّه، وظلمه في نفسه، فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه. ونكتة


(١) باختصار وتصرف عن زاد المعاد لابن القيم (٢/ ٤٠٨- ٤١٠) .