للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحويل القبلة إلى الكعبة:]

ورد عن عبد الله بن عباس رواية صحيحة الإسناد جاء فيها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة إلى بيت المقدس تاركا الكعبة المشرفة بينه وبين بيت المقدس «١» . وكذلك كان يفعل المسلمون إذ يتوجهون إلى بيت المقدس، وبيّن سعيد بن المسيّب أن الأنصار كانوا يصلون إلى بيت المقدس قبل الهجرة بثلاث سنوات.

وبعد هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة استمر في التوجّه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا «٢» .

وفي منتصف رجب من السنة الثانية للهجرة أمر الله تعالى نبيه والمسلمين بالتحول في الصلاة نحو الكعبة المشرفة قبلة إبراهيم وإسماعيل.- عليهما السلام- وقد حدد سعيد بن المسيب تاريخ هذا الحادث بشهرين قبل معركة بدر «٣» .

كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكثر من الدعاء والتضرع يسأل ربه أن يصرف قبلته والمسلمين إلى الكعبة المشرفة، فأنزل الله تعالى قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ «٤» .

وكانت أول صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم مستقبلا الكعبة المشرفة والمسجد الحرام صلاة الظهر «٥» . أما أهل قباء من المسلمين فقد تأخر وصول الخبر إليهم إلى فجر اليوم التالي وهم يصلون الصبح، فتحولوا عند ذلك «٦» .

وكان اليهود قبل تحويل القبلة يرون بأن شريعة الإسلام تابعتهم في قبلتهم، ويشيعون كذبا بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يأخذ عنهم في التقاليد والطقوس، حتى أنهم قالوا عنه صلّى الله عليه وسلّم: «يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا» «٧» .

ولذلك فقد كان وقع تغيير القبلة من بيت المقدس وتوجيهها إلى الكعبة المشرفة شديدا على اليهود، وقاموا عند ذلك بدعاية مضادّة واسعة النطاق تساءلوا فيها عن مبررات تحويل القبلة «الحق التي كانوا عليها» بزعمهم، فأنزل الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٨» .

ولما يئس اليهود من محاولتهم الأولى، زعموا بأن البر هو التوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، فأنزل الله في ذلك قرآنا: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ


(١) ابن سعد- الطبقات ١/ ٢٤٣، البخاري- الصحيح (فتح الباري ١/ ٩٥- ٩٦) .
(٢) الطبري- تفسير ٢/ ٤، وانظر: البخاري (فتح الباري ١/ ٩٦- ٩٧) .
(٣) خليفة بن خياط- التاريخ ص/ ٦٤، ابن سعد- الطبقات ١/ ٢٤٢، تفسير الطبري ٢/ ٣.
(٤) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ ١٤٤.
(٥) وكان ذلك في مسجد بني سلمة، وحين عاد إلى مسجده صلّى الله عليه وسلّم صلى فيه العصر، فتح الباري ١/ ٩٧، وانظر: (الحديث ٤٤٨٦) .
(٦) البخاري- الصحيح (فتح الباري ١/ ٩٧) .
(٧) الطبري- تفسير ٢/ ٢٠.
(٨) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية ١٤٢، وانظر: الطبري- تفسير ٢/ ١- ٢.