المكافأة إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشّرّ بأقلّ منه «١» .
[أقسام العدل وكيفية تحقيقها:]
قال الماورديّ: إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان.
وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل.
ونقل عن بعض البلغاء قوله: إنّ العدل ميزان الله الّذي وضعه للخلق، ونصبه للحقّ فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلّتين: قلّة الطّمع، وكثرة الورع. فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدّنيا الّتي لا انتظام لها إلّا به، ولا صلاح فيها إلّا معه، وجب أن يبدأ بعدل الإنسان في نفسه، ثمّ بعدله في غيره. فأمّا عدله في نفسه، فيكون بحملها على المصالح وكفّها عن القبائح، ثمّ بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين: من تجاوز أو تقصير، فإنّ التّجاوز فيها جور، والتّقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
فأمّا عدله مع غيره، فقد تنقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: عدل الإنسان فيمن دونه، كالسّلطان في رعيّته، والرّئيس مع صحابته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء:
باتّباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التّسلّط بالقوّة، وابتغاء الحقّ في السّيرة، فإنّ اتّباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التّسلّط أعطف على المحبّة، وابتغاء الحقّ أبعث على النّصرة.
القسم الثّاني: عدل الإنسان مع من فوقه.
كالرّعيّة مع سلطانها، والصّحابة مع رئيسها، ويكون ذلك بثلاثة أشياء:
بإخلاص الطّاعة، وبذل النّصرة، وصدق الولاء؛ فإنّ إخلاص الطّاعة أجمع للشّمل، وبذل النّصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظّنّ.
وهذه أمور إن لم تجتمع في المرء تسلّط عليه من كان يدفع عنه واضطرّ إلى اتّقاء من كان يقيه ... وفي استمرار هذا حلّ نظام شامل، وفساد صلاح شامل.
القسم الثّالث: عدل الإنسان مع أكفائه، ويكون بثلاثة أشياء: بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكفّ الأذى؛ لأنّ ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكفّ الأذى أنصف، وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء، ففسدوا وأفسدوا.
وقد يتعلّق بهذه الطّبقات أمور خاصّة يكون العدل فيها بالتّوسّط في حالتي التّقصير والسّرف، لأنّ العدل مأخوذ من الاعتدال، فما جاوز الاعتدال فهو خروج عن العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ كلّ ما خرج عن الأولى إلى ما ليس بأولى خروج عن العدل
(١) بصائر ذوي التمييز (٤/ ٢٨- ٣٠) بتصرف يسير.