للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كتابة التنزيل:]

كانت الأمة أميّة عند نزول الوحي لم تنتشر بين أفرادها القراءة والكتابة، غير أن هذا لا يعني الانعدام التام للكتابة في جميع الأنحاء، فقد كانت مكة المكرمة منطقة تجارية ولها علاقاتها المستمرة مع اليمن والشام والعراق، ولا شك في أن علاقات التجار وصفقاتهم تقتضي كتابة الاتفاقات والعقود والحسابات وأن تجري المراسلات بينهم وبين نظرائهم الموردين والمستوردين، وعقود القروض والرهون وغير ذلك من المعاملات التجارية. ولقد كان من الثابت انتشار الخط الحميري في اليمن فقد كانت حمير تكتب الخط المسند وهي كتابة تختلف عن الكتابة العربية المعهودة، وقد نقل ابن النديم نموذجا لذلك الخط في خزانة الخليفة المأمون عبد الله بن هارون مما أمر به الخليفة «١» وكذلك الحال في العراق وبلاد الشام حيث انتشرت الكتابة النبطيّة، ثم وضعت الأبجدية العربية لأول مرة في الأنبار والحيرة.

إن المشكلة التي تواجه الباحث في موضوع كتابة آيات التنزيل تحتم عليه الفصل بين أصل الخط العربي ونشأته، وبين ما كان يدونه كتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وخاصة كتاب الوحي من خطوط. وذلك أن مسألة نشأة الخط العربي وأصوله مسألة خاصة لدينا حولها العديد من النظريات والنصوص، ولا يخرج الحديث عنها عن إطار الفرضيات رغم وفرة النصوص، حيث لا يستطيع أحد الجزم بدقتها خاصة في إطار التناقض في وجهات النظر المتعددة في هذا المجال.

أما كتّاب الوحي فلا شك في أنهم باشروا بتدوين آيات الكتاب الحكيم بالخط العربي الذي كان سائدا في مكة المكرمة خلال فترة نزول الوحي، ثم في المدينة بعد الهجرة. وذلك ما يفسر قول ابن النديم «فأول الخطوط العربية، الخط المكي وبعده المدني «٢» » ولذلك فإنه عاد فأشار إلى النمطين المذكورين في النص نفسه فقال: «فأما المكي والمدني ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاج (يسير) «٣» » «٤» وذلك صريح في أن المقصود بالأولية هو بداية الكتابة في رسم المصاحف أو في فترة الدعوة الإسلامية. ومما يدعم هذا الرأى أن ابن النديم قد نص بعد ذلك على رسم صورة البسملة فاتحة لعنوان «خطوط المصاحف» ثم أورد بعد ذلك العنوان مباشرة ذكرا لعدد كبير من الخطوط «٥» بدأها «بالمكى والمدني» «٦» مما يوحي بمتابعته لتطور خطوط المصاحف في المدينة، ولعل أولهما ما كتبت به صحف التنزيل الكريم، وثانيهما ما كتب به المصحف عند جمعه في عهد الراشدين «٧» . وقد روى البلاذري عن أبي بكر بن عبد الله العدوي قال: «دخل الإسلام (مكة)


(١) ابن النديم- الفهرست ص/ ٨.
(٢) المرجع السابق ص/ ٩.
(٣) في الأصل «يصير» ولا معنى لها في الجملة التي انتهت وهى تصحيف.
(٤) الفهرست ص/ ٩.
(٥) تجاوزت العشرين.
(٦) الفهرست ص/ ٩.
(٧) انظر الجمع الأول والجمع الثاني في عهدي الصديق وعثمان بن عفان، في الفصل الثالث من هذا البحث.