للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (محمد/ ٣٠) ، فالأوّل:

فراسة النّظر والعين، والثّاني: فراسة الأذن والسّمع.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه الله- يقول: علّق معرفته إيّاهم على المشيئة، ولم يعلّق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط، بل أخبر به خبرا مؤكّدا بالقسم، فقال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ

(محمد/ ٣٠) وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام ومغزاه.

والمقصود: أنّه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم، فإنّ معرفة المتكلّم وما في ضميره من كلامه: أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه، فإنّ دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السّيماء المرئيّة، والفراسة تتعلّق بالنّوعين بالنّظر والسّماع.

[والفراسة ثلاثة أنواع:]

إيمانيّة. وسببها: نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرّق به بين الحقّ والباطل، والحالي «١» والعاطل «٢» ، والصّادق والكاذب.

وحقيقتها: أنّها خاطر يرد على القلب ينفي ما يضادّه. وهذه الفراسة على حسب قوّة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدّ فراسة.

وأصل هذا النّوع من الفراسة: من الحياة والنّور اللّذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها (الأنعام/ ١٢٢) كان ميتا بالكفر والجهل، فأحياه الله بالإيمان والعلم، وجعل له القرآن والإيمان نورا يستضيء به في النّاس على قصد السّبيل، ويمشي به في الظّلم والله أعلم.

الفراسة الثّانية: فراسة الرّياضة والجوع والسّهر والتّخلّي، فإنّ النّفس إذا تجرّدت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجرّدها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدلّ على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهّال يغترّ بها، وللرّهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حقّ نافع ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئيّ من جنس فراسة الولاة، وأصحاب عبارة الرّؤيا والأطبّاء ونحوهم.

الفراسة الثّالثة: الفراسة الخلقيّة، وهي الّتي صنّف فيها الأطبّاء وغيرهم واستدلّوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الّذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرّأس الخارج عن العادة على صغر العقل. ومعظم تعلّق الفراسة بالعين، فإنّها مرآة القلب وعنوان ما فيه، ثمّ باللّسان، فإنّه رسوله وترجمانه.

وأصل هذه الفراسة: أنّ اعتدال الخلقة والصّورة: هو اعتدال المزاج والرّوح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف


(١) الحالي: المملوء بالإيمان.
(٢) العاطل: الخالي.