للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الواحد منها عدة رجال، فاتخذوا من ذلك أساسا للبناء. ولما جمعوا ما أخرجوه من النفقة وجدوها أقل من أن تبلغ بهم عمارة البيت كله، فتشاوروا في ذلك، واستقر رأيهم على أن يقصروا عن القواعد ويحجّروا ما يقدرون عليه من بناء «١» البيت، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار يطوف الناس من ورائه، ففعلوا ذلك وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من جهة الحجر، وتركوا من ورائه من فناء البيت في الحجر ستة أذرع وشبرا، ثم شرعوا في بنائها، ورفعوا بابها عن الأرض حتى لا تدخلها السيول، ولا يرقى إليها إلا بسلّم ولا يدخلها إلّا من أرادوا، وبنوها بمدماك من حجارة ومدماك من خشب بين الحجارة «٢» . وبذلك يتضح أن هذا البنيان للكعبة قد قصر عما كان عليه منذ زمن الخليل- عليه السلام-. وقد أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد البعثة إلى هذا الأمر في الأحاديث الصحيحة التي رواها البخاري ومسلم، فقد قالت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: سألت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: «نعم» . قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إنّ قومك قصّرت بهم النّفقة» ، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أنّ قومك حديثو عهد بالجاهليّة فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض» «٣» .

[الحكم الأمين:]

عندما انتهت قريش إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في رفعه وأراد كل فريق أن يذهب بشرف وضعه في مكانه، وزعمت كل قبيلة أنها أحق بذلك الشرف حتى كاد ينشب بينهم القتال. وظلوا على تلك الحال بضع ليال، ثم تشاوروا فأشار عليهم أبو أمية حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر، وكان أسنّ قريش، بأن يحكّموا أول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، فرضوا بذلك فطلع عليهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا بما قضى بيننا، فلما أخبروه الخبر أمر بثوب فوضع فيه الحجر الأسود وطلب أن يتقدم من كل ربع من أرباع قريش رجل وأن يأخذ كل رجل بزاوية من زوايا الثوب، ثم رفعوه فأخذه بيده ووضعه مكانه وشده، وبذلك حسم خلافا خطيرا كاد أن يمزق قريشا. ثم واصلوا البناء وزادوا في ارتفاعها تسعة أذرع وجعلوا لها سقفا مسطحا تحمله ست دعائم في صفين في كل صف ثلاث دعائم.

وكان الخشب خمسة عشر مدماكا والحجارة ستة عشر مدماكا وبلغ ارتفاعها من خارج الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعا، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وأقاموا داخلها درجة من خشب يصعد بها إلى ظهرها، وزوّقوا سقفها وجدرانها الداخلية، ودعائمها، وصوروا فيها صور الأنبياء، ويبدو أن ذلك كان بتأثير باقوم، ذلك الروميّ البنّاء الذي استعانوا به، فكانت فيها صورة إبراهيم عليه السلام يستقسم بالأزلام، وصور الملائكة، وصور مريم- عليها السلام- وفي حجرها ابنها عيسى- عليه السلام-، وجعلوا لها بابا يفتح ويغلق، ثم ردوا المال والحلية في الجب وعلقوا فيه قرني الكبش ونصبوا هبل على الجب كما كان قبل ذلك، وكسوها حبرات يمانية وردموا الردم الأعلى وصرفوا السيل عن الكعبة» «٤» .


(١) معنى هذه العبارة أنهم اقتصروا في النباء على ما يقدرون عليه ووضعوا الأحجار في هذا الجزء الذي اكتفوا به.
(٢) الأزرقي- أخبار مكة ١/ ١٦٢- ١٦٣، ابن فهد- إتحاف الورى ١/ ١٥٦.
(٣) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٣/ ٥١٣- ٥١٤) حديث (١٥٨٤- ٨٦) ، صحيح مسلم (شرح النووي) ٩/ ٨٨- ٩١.
(٤) الأزرقي- أخبار مكة ١/ ١٦٣- ١٦٥، ابن فهد- إتحاف الورى ١/ ١٥٦- ١٦٠، ابن كثير- البداية والنهاية ٢/ ٣٠٣- ٣٠٤، المسعودي- مروج الذهب ٢/ ٢٧٨- ٢٧٩، الشيبي- إعلام الأنام ص/ ١٣٦- ١٣٨.