للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الرخصة فى الكذب:]

قال النّوويّ: اعلم أنّ الكذب يجوز- وإن كان أصله محرّما- يجوز في بعض الأحوال بشروط مختصرها: أنّ الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكلّ مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلّا بالكذب، ثمّ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا كان الكذب واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وأخفى ماله، وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه. وكذا الوديعة ... إلى أن قال والأحوط في هذا كلّه أن يورّي. ومعنى التّورية:

أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنّسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللّفظ، وبالنّسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التّورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا المجال «١» .

قال الجاحظ: ما لم يكن لدفع مضرّة لا يمكن أن تدفع إلّا به، أو اجترار نفع لا غنى عنه، ولا يتوصّل إليه إلّا به فإنّ الكذب عند ذلك ليس بمستقبح، وإنّما يستقبح الكذب إذا كان عبثا، أو لنفع يسير لا خطر له «٢» .

وقال الرّاغب: الكذب يكون قبيحا بثلاثة شرائط:

الأوّل: أن يكون الخبر بخلاف المخبر عنه.

الثّاني: أن يكون المخبر قد اختلقه قبل الإخبار به.

الثّالث: أن يقصد إيراد ما في نفسه.

قال: ولا يلزم على هذا أن يقال: جوّزوا الكذب فيما يرجى منه نفع دنيويّ، فإنّ المنفعة الدّنيويّة ولو كانت ملك الدّنيا بحذافيرها- لا تعادل الضّرر الحاصل من أدنى كذب، وإنّما يتصوّر ما قلناه في نفع أخرويّ يكون الإنسان فيه- عاجلا وآجلا- معذورا، كمن سألك عن مسلم استتر في دارك وهو يريد قتله.

فيقول: هل فلان في دارك فتقول: لا فهذا يجوز؛ لأنّ نفع هذا الكذب موف على ضرره وهو فيه معذور «٣» .

وقال الماورديّ: وردت السّنّة بإرخاص الكذب في الحرب وإصلاح ذات البين، على درجة التّورية دون التّصريح به؛ فإنّ السّنّة لا ترد بإباحة الكذب؛ لما فيه من التّنفير، وإنّما ذلك على طريق التّورية والتّعريض، كما سئل صلّى الله عليه وسلّم: ممّن أنت؟ قال:

«من ماء» ؛ فورّى عن الإخبار بنسبه بأمر محتمل، وكما في إجابة أبي بكر- رضي الله عنه- عندما سئل عن الرّسول الكريم فقال: هاد يهديني السّبيل، فظنّوا أنّه يعني هداية الطّريق، وهو إنّما يريد هداية سبيل الخير «٤» .

[دواعي الكذب وأماراته:]

للكذب دواع تدعو إليه وأمارات تدلّ عليه،


(١) رياض الصالحين (٤٥٩) .
(٢) تهذيب الأخلاق (٣٢) .
(٣) الذريعة إلى مكارم الشريعة (٢٧٢) .
(٤) باختصار عن أدب الدنيا والدين (٢٥٧) .