للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أسباب كفران النعم وجحودها:]

قال الغزاليّ- رحمه الله تعالى- لم يقصّر بالخلق عن شكر النّعم إلّا الجهل والغفلة، فإنّهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النّعم، ولا يتصوّر شكر النّعمة إلّا بعد معرفة كونها نعمة، ثمّ إنّهم إن عرفوا نعمة ظنّوا أنّ الشّكر عليها أن يقول باللّسان: الحمد لله والشّكر لله. ولم يعرفوا أنّ معنى الشّكر أن يستعمل النّعمة في إتمام الحكمة الّتي أريدت بها وهي طاعة الله عزّ وجلّ- فلا يمنع من الشّكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلّا غلبة الشّهوة واستيلاء الشّيطان.

أمّا الغفلة عن النّعم فلها أسباب، وأحد أسبابها أنّ النّاس بجهلهم لا يعدّون ما يعمّ الخلق ويسلم لهم في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على ما عمّ الله به الخلق من شتّى النّعم في الكون والنّفس كالشّمس والقمر واللّيل والنّهار والحرارة والبرودة واستساغة الطّعام، ذلك ممّا لا يحصى كثرة؛ لأنّها عامّة للخلق، مبذولة لهم في جميع أحوالهم، فلا يرى كلّ واحد لنفسه منهم اختصاصا به فلا يعدّه نعمة، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتّى انقطع الهواء عنهم ماتوا، ولو حبسوا في بيت حمّام فيه هواء حارّ أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غمّا، فإن ابتلي واحد منهم بشيء من ذلك ثمّ نجا ربّما قدّر ذلك نعمة وشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النّعمة ثمّ تردّ عليهم في بعض الأحوال.

والنّعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها فلا ترى البصير يشكر صحّة بصره إلّا أن تعمى عيناه فعند ذلك لو أعيد عليه بصره أحسّ به وشكره وعدّه نعمة، وهذا الجاهل الّذي لم يقدّر نعمة الله عليه مثل العبد السّوء، حقّه أن يضرب دائما حتّى إذا ترك ضربه ساعة تقلّد به منّة، فإن ترك ضربه على الدّوام غلبه البطر وترك الشّكر، فصار النّاس لا يشكرون إلّا المال الّذي يتطرّق إليه الاختصاص من حيث الكثرة والقلّة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم. ولو أمعن الإنسان النّظر في أحواله رأى من الله نعما كثيرة تخصّه لا يشاركه فيها النّاس كافّة بل يشاركه عدد يسير من النّاس، وربّما لا يشاركه فيها أحد من الخلق، وذلك يتمثّل في ثلاثة أمور يعترف بها كلّ عبد:

أحدها: العقل. فإنّه ما من عبد لله تعالى إلّا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنّه أعقل النّاس، وقلّ من يسأل الله تعالى العقل، ولذا وجب على كلّ الخلق شكر الله.

والأمر الثّاني: الخلق. فما من عبد إلّا ويرى من غيره عيوبا يكرهها وأخلاقا يذمّها، وإنّما يذمّها من حيث يرى نفسه بريئا منها فإذا لم يشتغل بذمّ الغير وجب عليه أن يشكر الله إذ حسن خلقه وابتلي غيره بسوء الخلق.

والأمر الثّالث الّذي يقرّ به كلّ واحد: العلم.

فما من أحد إلّا ويعرف بواطن أمور نفسه وخطايا أفكاره وما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء حتّى اطّلع عليه أحد من الخلق لا فتضح، فكيف لو اطّلع النّاس كافّة ألا يوجب ستر القبيح وإخفاؤه عن عين النّاس شكر هذه النّعمة العظيمة؟ ولم يصرف الخلق عن شكر هذه النّعمة إلّا الغفلة والجهل. وأعمّ من هذه الأمور أمور