للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأمل وإلى الغفلة عن تقدير الموت القريب، فهو أبدا يظنّ أنّ الموت يكون بين يديه ولا يقدّر نزوله به ووقوعه فيه، وهو أبدا يظنّ أنّه يشيّع الجنائز ولا يقدّر أن تشيّع جنازته، لأنّ هذا قد تكرّر عليه وألفه وهو مشاهدة موت غيره، فأمّا موت نفسه فلم يألفه، ولم يتصوّر أن يألفه فإنّه لم يقع، وإذا وقع في دفعة أخرى بعد هذه، فهو الأوّل وهو الآخر.

[علاج طول الأمل:]

وسبيله أن يقيس نفسه بغيره، ويعلم أنّه لا بدّ وأن تحمل جنازته ويدفن في قبره، ولعلّ اللّبن الّذي يغطّي به لحده قد ضرب وفرغ منه وهو لا يدري فتسويفه جهل محض. وإذا عرفت أنّ سببه الجهل وحبّ الدّنيا فعلاجه دفع سببه.

أمّا الجهل فيدفع بالفكر الصّافي والحكمة البالغة.

وأمّا حبّ الدّنيا، فالعلاج في إخراجه من القلب شديد وهو الداء العضال الّذي أعيا الأوّلين والآخرين علاجه؛ ولا علاج له إلّا الإيمان باليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثّواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حبّ الدّنيا، فإنّ حبّ الخطير هو الّذي يمحو عن القلب حبّ الحقير. فإذا رأى حقارة الدّنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدّنيا كلّها، وإن أعطي ملك الأرض من المشرق إلى المغرب، وكيف وليس عنده من الدّنيا إلّا قدر يسير مكدّر منغّص، فكيف يفرح بها أو يترسّخ في القلب حبّها مع الإيمان بالآخرة؟ فنسأل الله تعالى أن يرينا الدّنيا كما أراها الصّالحين من عباده.

[بيان مراتب الناس في طول الأمل وقصره:]

اعلم أنّ النّاس في ذلك يتفاوتون؛ فمنهم من يأمل البقاء، ويشتهي ذلك أبدا. قال الله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ (البقرة/ ٩٦) . ومنهم من يأمل البقاء إلى الهرم وهو أقصى العمر الّذي شاهده ورآه وهو الّذي يحبّ الدّنيا حبّا شديدا. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قلب الشّيخ شاب على حبّ اثنتين:

طول الحياة وحبّ المال» . ومنهم من يأمل إلى سنة فلا يشتغل بتدبير ما وراءها فلا يقدّر لنفسه وجودا في عام قابل، ولكنّ هذا يستعدّ في الصّيف للشّتاء وفي الشتاء للصّيف. فإذا جمع ما يكفيه لسنته اشتغل بالعبادة.

ومنهم من يأمل مدّة الصّيف أو الشّتاء، فلا يدّخر في الصّيف ثياب الشّتاء ولا في الشّتاء ثياب الصّيف.

ومنهم من يرجع أمله إلى يوم وليلة، فلا يستعدّ إلّا لنهاره وأمّا للغد فلا. قال عيسى عليه السّلام: لا تهتمّوا برزق غد. فإن يكن غد من آجالكم فستأتي فيه أرزاقكم مع آجالكم، وإن لم يكن من آجالكم فلا تهتمّوا لآجال غيركم «١» .

[للاستزادة: انظر صفات: الإعراض- الأمن من المكر- الغفلة- الوهم- التفريط والإفراط- اتباع الهوى- الطيش.

وفي ضد ذلك: انظر صفات: تذكر الموت- الزهد- التدبر- محاسبة النفس- الورع- التفكر- التأمل- النظر والتبصر- البصيرة] .


(١) إحياء علوم الدين (٤/ ٤٨٦) بتصرف.