للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلّف بإزالته «١» .

[دوافع طول الأمل:]

قال الإمام الغزاليّ- رحمه الله-: اعلم أنّ طول الأمل له سببان، أحدهما: الجهل، والآخر:

حبّ الدنيا.

أمّا حبّ الدّنيا: فهو أنّه إذا أنس بها وبشهواتها ولذّاتها وعلائقها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الّذي هو سبب مفارقتها، وكلّ من كره شيئا دفعه عن نفسه. والإنسان مشغوف بالأمانيّ الباطلة، فيمنّي نفسه أبدا بما يوافق مراده، وإنّما يوافق مراده البقاء في الدّنيا، فلا يزال يتوهمّه ويقدّره في نفسه ويقدّر توابع البقاء وما يحتاج إليه من مال وأهل ودار وأصدقاء ودوابّ وسائر أسباب الدّنيا، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه، فيلهو عن ذكر الموت فلا يقدّر قربه، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له سوّف ووعد نفسه وقال: الأيّام بين يديك إلى أن تكبر ثمّ تتوب، وإذا كبر فيقول: إلى أن تصير شيخا. فإذا صار شيخا قال:

إلى أن تفرغ من بناء هذه الدّار وعمارة هذه الضّيعة. أو ترجع من هذه السّفرة، أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازة وتدبير مسكن له، أو تفرغ من قهر هذا العدوّ الّذي يشمت بك. فلا يزال يسوّف ويؤخّر، ولا يخوض في شغل إلّا ويتعلّق بإتمام ذلك الشّغل عشرة أشغال أخر، وهكذا على التّدريج يؤخّر يوما بعد يوم ويفضي به شغل إلى شغل بل إلى أشغال إلى أن تختطفه المنيّة في وقت لم يحسبه، فتطول عند ذلك حسرته، وأكثر أهل النّار وصياحهم من سوف، يقولون: واحزناه من سوف. والمسوّف المسكين لا يدري أنّ الّذي يدعوه إلى التّسويف اليوم هو معه غدا، وإنّما يزداد بطول المدّة قوّة ورسوخا، ويظنّ أنّه يتصوّر أن يكون للخائض في الدّنيا والحافظ لها فراغ قطّ وهيهات، فما يفرغ منها إلّا من طرحها. فما قضى أحد منها لبانته وما انتهى أرب إلّا إلى أرب.

وأصل هذه الأماني كلّها حبّ الدّنيا والأنس بها والغفلة عن معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحبب من أحببت فإنّك مفارقه» .

وأمّا الجهل: فهو أنّ الإنسان قد يعوّل على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشّباب، وليس يتفكّر المسكين أنّ مشايخ بلده لو عدّوا فكانوا أقلّ من عشر رجال البلد، وإنّما قلّوا لأنّ الموت في الشّباب أكثر، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبيّ وشابّ. وقد يستبعد الموت لصحّته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أنّ ذلك غير بعيد، وإن كان ذلك بعيدا، فالمرض فجأة غير بعيد، وكلّ مرض فإنّما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا. ولو تفكّر هذا الغافل وعلم أنّ الموت ليس له وقت مخصوص من شباب وشيب وكهولة ومن صيف وشتاء وخريف وربيع من ليل ونهار لعظم استشعاره واشتغل بالاستعداد له، ولكنّ الجهل بهذه الأمور وحبّ الدّنيا دعواه إلى طول


(١) فتح الباري (١١/ ٢٤١) .