للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسألة وسرّها أنّه لا يرى ربّه إلّا محسنا، ولا يرى نفسه إلّا مسيئا أو مفرّطا أو مقصّرا، فيرى كلّ ما يسرّه من فضل ربّه عليه، وإحسانه إليه، وكلّ ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه «١» . ومن الإنصاف في حقّ المولى عزّ وجلّ الإنصاف في معاملته، وفي هذا يقول ابن القيّم أيضا:

«الإنصاف في معاملة الله أن يعطي العبوديّة حقّها، وأن لا ينازع ربّه صفات إلهيّته، وأن لا يشكر على نعمه سواه، ولا يستعين بها على معاصيه، ولا يحمد غيره، ولا يعبد سواه» «٢» .

ثالثا: إنصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم:

وذلك بالقيام بحقوقه صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان به، ومحبّته وتقديمها على محبّة الخلق كلّهم، وطاعته وتوقيره وتبجيله، وتقديم أمره وقوله على أمر غيره وقوله. فمن الظّلم العظيم أن يخلّ العبد بشيء من حقوق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأرحم بهم وأرأف بهم من كلّ أحد من الخلق، وهو الّذي لم يصل إلى أحد خير إلّا على يديه. «٣» .

[رابعا: إنصاف العباد]

يقصد بإنصاف العباد أن يقوم المسلم بإنصاف الغير من نفسه أو ممّن يحبّ، حتّى لو كان هذا الغير مخالفا له في الرّأي، أو في الدّين، أو في المذهب، أو غير ذلك ممّا يقتضي التّحامل، أو يكون مظنّة للجور، ومن إنصاف النّاس- كما يقول ابن القيّم: أن تؤدّي حقوقهم وألّا تطالبهم بما ليس لك، وألّا تحمّلهم فوق وسعهم، وأن تعاملهم بما تحبّ أن يعاملوك به، وأن تعفيهم ممّا تحبّ أن يعفوك منه، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها «٤» ، ولإنصاف العباد صور كثيرة ونماذج متعدّدة جاء بها القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة، ودلّت عليها آثار سلفنا الصّالح، وهذا ما سوف نتناوله في الفقرة التالية.

[القرآن الكريم يقدم المثل الأعلى للإنصاف:]

إنّ إنصاف المرء أخاه في النّسب أو الدّين قد يكون أمرا معقولا تقرّه الطّبائع السّليمة والفطر النّقيّة، أمّا إنصاف العدوّ وتبرئة ساحته مع مخالفته لنا في الدّين فهذا ما لا يستطيعه إلّا من تربّى على مائدة الإسلام وتشبّع بروح العدل والإنصاف الّتي جاء بها القرآن، يقول أبو حيّان في تفسير قول الله تعالى:

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (النساء/ ١٠٥) ، يتلخّص سبب النّزول في «أنّ طعمة ابن أبيرق سرق درعا في جراب فيه دقيق لقتادة بن النّعمان، وخبّأها عند يهوديّ، فحلف طعمة مالي بها علم، فاتّبعوا أثر الدّقيق إلى دار اليهوديّ، فقال اليهوديّ: دفعها إليّ طعمة» «٥» . فلمّا همّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء في هذه المسألة نزلت الآيات الكريمة (انظر


(١) الفوائد (٤٩) .
(٢) نقلا عن كتاب الانصاف لابن غازي (٢٤.)
(٣) الإنصاف لأبي الحسن ساعد بن عمر بن غازي (٢٤) ، وقد نقل عن بهجة قلوب الأبرار للشيخ عبد الرحمن السعدي (٤١- ٤٢) .
(٤) زاد المعاد (٢/ ٤٠٧) بتصرف.
(٥) تفسير البحر المحيط (٣/ ٣٥٨) .