للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[واصطلاحا:]

قال المناويّ: المداراة: الملاينة والملاطفة، وأصلها المخاتلة ومنه: الدّراية وهو العلم مع تكلّف وحيلة «١» .

قال ابن بطّال- رحمه الله تعالى-: المداراة:

خفض الجناح للنّاس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول. وقال ابن حجر: المداراة الدّفع برفق «٢» .

[المداراة لا بد منها في الحياة:]

قال ابن حبّان- رحمه الله تعالى-: الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة من غير مفارقة المداهنة، إذ المداراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه، والفصل بين المداراة والمداهنة: هو أن يجعل المرء وقته في الرّياضة لإصلاح الوقت الّذي هو له مقيم بلزوم المداراة من غير ثلم في الدّين من جهة من الجهات، فمتى ما تخلّق المرء بخلق شابه بعض ما كره الله منه في تخلّقه فهذا هو المداهنة، لأنّ عاقبتها تصير إلى قلّ ويلازم المداراة لأنّها تدعو إلى صلاح أحواله، ومن لم يدار النّاس ملّوه، وقد أنشد عليّ بن محمّد البسّاميّ:

دار من النّاس ملا لاتهم ... من لم يدار النّاس ملّوه

ومكرم النّاس حبيب لهم ... من أكرم النّاس أحبّوه

فالواجب على العاقل أن يداري النّاس مداراة الرّجل السّابح في الماء الجاري، ومن ذهب إلى عشرة النّاس من حيث هو كدّر على نفسه عيشه، ولم تصف له مودّتهم، لأنّ وداد النّاس لا يستجلب إلّا بمساعدتهم على ما هم عليه. إلّا أن يكون مأثما، فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة، والبشر قد ركّب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة، فكما يشقّ عليك ترك ما جبلت عليه فكذلك يشقّ على غيرك مجانبة مثله، فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلّا بمعاشرتهم من حيث هم، والإغضاء عن مخالفتهم في كلّ الأوقات، إذ إنّ من لم يعاشر النّاس على لزوم الإغضاء عمّا يأتون من المكروه، وترك التّوقّع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد، وترك الشّحناء، ومن لم يدار صديق السّوء كما يداري صديق الصّدق ليس بحازم، ولقد أحسن الّذي يقول:

تجنّب صديق السّوء واصرم حباله ... وإن لم تجد عنه محيصا فداره

وأحبب حبيب الصّدق واحذر مراءه ... تنل منه صفو الودّ ما لم تماره

وذلك لأنّه إذا كان كلّما رأى من أحد زلّة رفضه لزلّته بقي وحيدا، لا يجد من يعاشر، وفريدا لا يجد من يخادن، بل يغضي على الأخ الصّادق زلّاته ولا يناقش الصّديق السّيّيء على عثراته.

وقد قال منصور بن محمّد الكريزيّ:


(١) التوقيف (٣٠١) .
(٢) الفتح (١٠/ ٥٢٨) .