وقال ابن عبّاس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن الفضل والفرّاء والطّبريّ: هو الشّيب.
وقيل: النّذير: الحمّى. وقيل: موت الأهل والأقارب.
وقيل: كمال العقل. والنّذير: بمعنى الإنذار.
ثمّ قال: فالشّيب، والحمّى، وموت الأهل كلّه إنذار بالموت، قال صلّى الله عليه وسلّم «الحمّى رائد الموت» .
قال الأزهريّ معناه أنّ الحمّى رسول الموت، أي كأنّها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشّيب نذير أيضا. لأنّه يأتي في سنّ الاكتهال وهو علامة لمفارقة سنّ الصّبا الّذي هو سنّ اللهو واللّعب. قال:
رأيت الشّيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر:
فقلت لها: المشيب نذير عمري ... ولست مسوّئا وجه النّذير
وأمّا موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرّحيل في كلّ وقت وأوان، وحين وزمان.
قال:
وأراك تحملهم ولست تردّهم ... فكأنّني بك قد حملت فلم ترد
وقال آخر:
الموت في كلّ حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عمّا يراد بنا
وأمّا كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور، ويفصل بين الحسنات والسّيّئات، فالعاقل يعمل لآخرته، ويرغب فيما عند ربّه، فهو نذير.
وأمّا محمّد صلّى الله عليه وسلّم فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده، قطعا لحججهم، قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ... ، وقال: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) * «١» .
٩-* (قال أبو حيّان في قوله تعالى وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إلى قوله تعالى وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة/ ١٢٢) . « ... والّذي يظهر أنّ هذه الآية إنّما جاءت للحضّ على طلب العلم والتّفقّه في دين الله، وأنّه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلّهم في ذلك، فتعرى بلادهم منهم، ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلّا رحل طائفة منهم للتّفقّه في الدّين ولإنذار قومهم، فذكر العلّة للنّفير وهي التّفقه أوّلا، ثمّ الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشّريعة. أي: فهلّا نفر من كلّ جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم، فكفوهم النّفير، وقام كلّ بمصلحة، هذه بحفظ بلادهم وقتال أعدائهم، وهذه لتعلّم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم.
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي:
وليجعلوا غرضهم ومرمى همّتهم في التّفقّه إنذار قومهم وإرشادهم والنّصيحة لهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا الله تعالى فيعملوا عملا صالحا.
ووجه آخر، وهو: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك، وبعد ما نزل في المتخلّفين من الآيات الشّدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النّفير، وانقطعوا جميعا عن الوحي والتّفقّه في الدّين،
(١) تفسير القرطبي (١٤/ ٣٥٣- ٣٥٤) .