للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وتأتي تلك القيم في استمراريتها من موضوعيتها، فهي لا يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل بسبب تغير الظروف والأزمان، وهي ليست من نتاج بشر، بل هي وحي من الله تعالى لنبيه، وعلى هذا تكون الاستمرارية سمة فاصلة بين قيم الله سبحانه وتعالى وقيم البشر.

وأنها جامعة للثبات والمرونة، فهناك قيم عليا ثابتة لا تقبل الاجتهاد أو التغيير أو التبديل، كالقيم العقدية، وقيم العبادات وقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما القيم الأخرى فهي نسبية، بمعنى أن القيم التي تستند إلى نص قطعي الدلالة لا يجوز فيها التغيير أو التبديل، أما تلك التي تعتمد على ظني الدلالة، فإن مجال الاختيار فيها واسع، وهي مرنة مرونة كافية لمواجهة ما يتولد في حياة الناس من مواقف وحوادث، وما تصير إليه الأمور في المجتمعات، وهي مما يحتاج إلى نظر وتأمل واستنباط.

فالقيم والقواعد القطعية الواجبة لا يجوز فيها التبديل، أما ما يستحدث من مواقف وما يجوز فيه الاجتهاد ويستجد من قيم بحسب اقتضاء المصلحة زمانا ومكانا وحالا، فتلحقها الحركة والمرونة، وبهذه الميزة استطاعت القيم الإسلامية الحفاظ على المجتمع الإسلامي بالرغم من التغيرات التي أصابته والتي واجهته على مر الزمن.

ز- أنها وسطية، تلك الوسطية الانتقائية لا التلفيقية، فقد عمد الإسلام إلى القيم الجيدة عند العربي فأبقاها وضبطها، وأضاف إليها، وزود الإنسان بقيم ليعيش عالمه المادي والمعنوي في توازن دقيق، وزوده بقيم تهتم بالفرد كما تهتم بالجماعة، كما وازن بين الدنيا والآخرة، القوة والرحمة ... الخ وبهذا كانت معبرة تعبيرا صحيحا عن الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية، في واقعية كاملة.

إن وسطية القيم الإسلامية لم تلغ الطبيعة البشرية، بل عملت وتعمل على توجيهها باعتبارها مفاهيم ضابطة، تعمل على توجيه هذه الطبيعة، فهي لا تضاد الفطرة ولا تلغيها ولا تكبتها ولا تقف في سبيلها، بل تحاول توجهها بطريقة دافعة، ومن منطلق هذه الوسطية يلزم الإسلام الإنسان بالقيم المحققة لإنسانيته، والتي لا تغلو في طرف وتهمل طرفا آخر، فالإنسان مطالب- مثلا- بالتوسط في الإنفاق، والعاطفة، والاعتقاد، وتوفية مطالب الروح والجسد، والآيات التي تؤيد ذلك عديدة منها:

- وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً «١» .

- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ «٢» .


(١) سورة الإسراء (٢٩) .
(٢) سورة القصص (٧٧) .