للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وأمّا سماع القبول والإجابة: ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنّهم قالوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا (النور/ ٥١) . فإنّ هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطّاعة.

والتّحقيق: أنّه متضمّن للأنواع الثّلاثة. وأنّهم أخبروا بأنّهم أدركوا المسموع وفهموه. واستجابوا له.

ومن سمع القبول: قوله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التوبة/ ٤٧) أي قابلون منهم مستجيبون لهم. هذا أصحّ القولين في الآية.

والمقصود: أنّ سماع خاصّة الخاصّة المقرّبين:

هو سماع القرآن بالاعتبارات الثّلاثة: إدراكا وفهما، وتدبّرا، وإجابة. وكلّ سماع في القرآن مدح الله أصحابه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه: فهو هذا السّماع.

وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات. وسماع القرآن، لا سماع مزامير الشّيطان، وسماع كلام ربّ الأرض والسّماء لا سماع قصائد الشّعراء، وسماع المراشد، لا سماع القصائد، وسماع الأنبياء والمرسلين، لا سماع المغنّين والمطربين.

فهذا السّماع حاد يحدو القلوب، إلى جوار علّام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح. ومحرّك يثير ساكن العزمات، إلى أعلى المقامات وأرفع الدّرجات. ومناد ينادي للإيمان.

ودليل يسير بالرّكب في طريق الجنان. وداع يدعو القلوب بالمساء والصّباح. من قبيل فالق الإصباح «حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح» .

فلم يعدم من اختار هذا السّماع إرشادا لحجّة، وتبصرة لعبرة، وتذكرة لمعرفة، وفكرة في آية، ودلالة على رشد، وردّا على ضلالة، وإرشادا من غيّ، وبصيرة من عمى، وأمرا بمصلحة، ونهيا عن مضرّة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجا من ظلمة، وزجرا عن هوى. وحثّا على تقى. وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء. وعصمة ونجاة، وكشف شبهة، وإيضاح برهان، وتحقيق حقّ، وإبطال باطل.

ونحن نرضى بحكم أهل الذّوق في سماع الأبيات والقصائد. ونناشدهم بالّذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة: هل وجدوا ذلك- أو شيئا منه- في الدّفّ والمزمار؟ ونغمة الشّادن ومطربات الألحان؟ والغناء المشتمل على تهييج الحبّ المطلق الّذي يشترك فيه محبّ الرّحمن، ومحبّ الأوطان، ومحبّ الإخوان، ومحبّ العلم والعرفان، ومحبّ الأموال والأثمان، ومحبّ النّسوان والمردان، ومحبّ الصّلبان.

فهو يثير من قلب كلّ مشتاق ومحبّ لشيء ساكنه. ويزعج قاطنه. فيثور وجده، ويبدو شوقه.

فيتحرّك على حسب ما في قلبه من الحبّ والشّوق والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان. ولهذا تجد لهؤلاء كلّهم ذوقا في السّماع، وحالا ووجدا وبكاء.

ويا لله العجب! أيّ إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات. لعلّ أكثرها قيلت فيما هو محرّم يبغضه الله ورسوله، ويعاقب عليه: من غزل وتشبيب بمن لا يحلّ له من ذكر أو أنثى؟ فإنّ غالب التّغزّل والتّشبيب إنّما هو في