للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى التوحيد، وينذر بالبعث «١» ، فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.

ولو أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك إعناتا، ولكنه زيادة على ذلك دعا إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* «٢» .

لقد سخروا من هذه الفكرة، واستدلّوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة. مشى إليه يوما أبيّ بن خلف بعظم بال، فقال: يا محمّد، أنت تزعم أنّ الله يبعث هذا! ثمّ فتّه بيده، ثمّ نفخه في الرّيح نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فردّ القرآن على ذلك بقوله:

وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «٣» .

صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت لذلك قريش من الداعي، ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان.

لم يكتف محمد صلّى الله عليه وسلّم بدعوته هذه التي كانت غريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة، ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.

فربا قريش كان في القبائل كلها، والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يحرم عليها ما تعدّه من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنّى لها أن تستطيع على ذلك صبرا؟.

لم يكتف الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد، والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب عليهم، مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب. فما بال محمد صلّى الله عليه وسلّم يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟

إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقرّه عليها، قريش التي أنفت أن تسوّى بالناس، فحرّفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تفيض منها كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج. قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة ... قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى للرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقول لعشيرته: «يا بني هاشم لا يجئني النّاس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم ... » .

بل من الغريب أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوّى نفسه ببقية الأمة قبل أن يكون رسولا يوحى إليه.

إن دخول المستضعفين في دين الإسلام أزعج زعماء قريش وخافوا مغبته فأرسلوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم يقولون:

«اطرد هؤلاء عنك ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك» فرفض الرسول صلّى الله عليه وسلّم هذا العرض، فبعثوا إليه مرة أخرى


(١) انظر صفة الإنذار.
(٢) القرآن الكريم- سورة الصافات، الآية/ ١٦.
(٣) القرآن الكريم- سورة يس، الآيات/ ٧٨- ٧٩.