للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» . قال:

قلت يا رسول الله! إنّي، والله! لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر.

ولقد أعطيت جدلا «١» . ولكنّي، والله! لقد علمت، لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه «٢» ، إنّي لأرجو فيه عقبى الله «٣» .

والله! ما كان لي عذر. والله! ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

«أمّا هذا فقد صدق. فقم حتّى يقضي الله فيك» .

فقمت. وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني، فقالوا لي:

والله! ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لك. قال: فو الله! ما زالوا يؤنّبونني حتّى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكذّب نفسي. قال:

ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟. قالوا:

نعم. لقيه معك رجلان. قالا مثل ما قلت. فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟. قالوا: مرارة بن ربيعة العامريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة. قال:

فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا، أيّها الثّلاثة، من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا النّاس. وقال: تغيّروا لنا حتّى تنكّرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض الّتي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباي، فاستكانا «٤» وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم «٥» وأجلدهم. فكنت أخرج فأشهد الصّلاة وأطواف في الأسواق ولا يكلّمني أحد. وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصّلاة. فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام، أم لا؟. ثمّ أصلّي قريبا منه وأسارقه النّظر. فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي.

حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتّى تسوّرت «٦» جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي، وأحبّ النّاس إليّ. فسلّمت عليه فو الله! ما ردّ عليّ السّلام. فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمنّ أنّي أحبّ الله ورسوله؟ قال: فسكت. فعدت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته. فقال: الله ورسوله أعلم.

ففاضت عيناي، وتولّيت، حتّى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطيّ «٧» من نبط أهل الشّام، ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة. يقول: من يدلّ على كعب بن مالك. قال: فطفق النّاس يشيرون له إليّ. حتّى جاءني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان. وكنت


(١) أعطيت جدلا: أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة.
(٢) تجد عليّ فيه: أي تغضب.
(٣) إني لأرجو فيه عقبى الله: أي يعقبني خيرا وأن يثيبني عليه.
(٤) استكانا: خضعا.
(٥) أشب القوم: أصغرهم سنّا.
(٦) تسورت: صعدت سوره.
(٧) نبطيّ: هم فلاحو العجم.