للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكنت في ألذّ حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي، وأسمع كلامه، ثمّ أدخل عليه في وقت عشائه وغدائه فيرفع منزلتي، ويقبل عليّ ويحادثني ويسألني مرّة عن العراق، ومرّة عن الحجاز، حتّى مضت عشرون ليلة، فتغدّيت يوما عنده، فلمّا تفرّق النّاس نهضت قائما، فقال: على رسلك، فقعدت، فقال: أيّ الأمرين أحبّ إليك: المقام عندي مع النّصفة لك في المعاشرة، أو الرّجوع إلى أهلك ولك الكرامة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين فارقت أهلي وولدي على أنّي أزور أمير المؤمنين، وأعود إليهم فإن أمرني أمير المؤمنين اخترت رؤيته على الأهل والولد، فقال: لا بل أرى لك الرّجوع إليهم، والخيار لك بعد في زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار كسوة، وحملناك، أتراني قد ملأت يديك؟ فلا خير فيمن ينسى إذا وعد وعدا، وزرنا إذا شئت، صحبتك السّلامة) * «١» .

٩-* (قال الشّاعر:

رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين

) * «٢» .

١٠- قال القاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ:

يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذّلّ أحجما «٣»

أرى النّاس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما

ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما

وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ... ولا كلّ من لاقيت أرضاه منعما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما

أنهنهها «٤» عن بعض ما لا يشينها «٥» ... مخافة أقوال العدا فيم أولما؟

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت، لكن لا أخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة ... إذن فاتّباع الجهل قد كان أحزما

ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النّفوس لعظّما

ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محيّاه «٦» بالأطماع حتّى تجهّما

) * «٧» .


(١) انظر المستطرف (١/ ٢٩١- ٢٩٢) .
(٢) المرجع السابق (١/ ٢٠٦) .
(٣) أحجما: تأخر عنه.
(٤) أنهنهها: أكفها وأزجرها.
(٥) يشينها: يعيبها.
(٦) محيّاه: أي وجهه على سبيل الاستعارة.
(٧) انظر أدب الدنيا والدين للماوردي (٩٢) .