للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يحدثنا الصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاري عن تفاصيل بيعة العقبة الثانية فيقول: «خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعقبة من أوسط أيام التشريق. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نتسلل تسلل القطا مستخفين. حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلّا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له: فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج- قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها-: إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلّا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال: فقلنا له لقد سمعنا ما قلت،:

فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيّا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أبو الهيثم بن التّيهان، فقال:

يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدّم الدّم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منّي، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» . قال كعب: وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس» «١» .

وبعد هذه البيعة، قام العباس بن عبادة بن نضلة فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدا بأسيافنا «٢» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» فرجعوا إلى رحالهم.

وفي صباح اليوم التالي جاءهم جمع من كبار رجال قريش يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ودعوتهم له بالهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا ذلك، والمسلمون ينظرون إلى بعضهم «٣» وبذلك مرت هذه الأزمة بسلام، وعاد الأنصار إلى يثرب وهم ينتظرون هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين بلهف كبير.


(١) ابن هشام- السيرة، ١/ ٢٧٨- ٩، وانظر البخاري- الصحيح (فتح ٨/ ٥٧ (حديث ٧٠٥٦) ، مسلم- الصحيح/ ٣١٤٧٠ (حديث ١٧٠٩) ، أحمد- الفتح الرباني ٢٠/ ٢٧٠، الحاكم- المستدرك ٢/ ٦٢٤- ٥، ابن كثير- البداية ٣/ ١٧٥.
(٢) ابن هشام- السيرة ٢/ ١٠١- ١٠٢.
(٣) المرجع السابق ١/ ٤٣٩- ٤٣، ٤٤٧- ٨ بإسناد حسن، وقد صححه ابن حبان، انظر: فتح الباري ٧/ ٢٢١، وأورد ابن هشام رواية عن تثبت قريش من صحة الخبر وإدراكهم بأنهم قد خدعوا، وخروجهم في طلب القوم، وإدراكهم سعد بن عبادة وعودتهم به إلى مكة مغلولا وهم يعذبونه حتى أنقذه الله منهم بجوار جبير بن مطعم والحارث بن حرب له (السيرة ٢/ ١٠٣- ١٠٤) .