للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإذن بالهجرة، وبنيّة الإقامة بها، وليعلّما من أسلم من أهلها، وذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، في حين كان خروج أبو سلمة من مكة فرارا بدينه وليس بقصد الهجرة إلى المدينة للاستقرار بها «١» .

وقد ذكرت المصادر المعتمدة الكثير من المعلومات عن أساليب قريش في محاولتها عرقلة هجرة المسلمين إلى يثرب، وإثارتها للمشاكل في وجه المهاجرين من الإرهاب، وحجز الزوجات والأطفال، وسلب الأموال، أو الاحتيال لإعادة من هاجر منهم، غير أن ذلك لم يعرقل موكب الهجرة، فقد كان المهاجرون على استعداد تام للانخلاع عن الدنيا ومباهجها في سبيل الفرار بدينهم. والمصادر الموثقة تحكي قصص البطولة والفداء في هذا المجال، فقد ذكرت أم المؤمنين أم سلمة- رضي الله عنها- قصة هجرتها مع زوجها الأول، وكيف أن قريشا انتزعتها وطفلها من زوجها. وكيف أن رحلة العذاب قد استمرت قرابة السنة قبل أن يتاح لها أن تسترجع ابنها وأن تلحق بزوجها، وتعكس القصّة، إلى جانب الإيمان العميق والمعاناة في سبيل العقيدة، إحدى صور المروءة التي عرفها المجتمع العربي قبل الإسلام حين تطوع عثمان بن طلحة بمصاحبة أم سلمة وطفلها والإحسان في معاملتهما بشرف وكرامة وحياء إلى أن أوصلها مشارف يثرب واطمأن على سلامتهما قبل أن يعود إلى مكة «٢» .

أما صهيب الرومي فقد منعه زعماء قريش من الهجرة بحجة أنه كان قد أتى إلى مكة فقيرا، فقالوا له: «كثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك أبدا» وحين عرض صهيب عليهم أن يجعل لهم المال في مقابل أن يخلّوا سبيله، فإنهم وافقوا على ذلك، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:

«ربح صهيب» «٣» ، ثم تلا قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ «٤» .

ويروي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- خبر هجرته حيث اتعد مع عياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص السهمي، على الالتقاء في سرف على أميال عن مكة، وكيف أن هشام بن العاص قد حبس عنهما، وفتن فافتتن، ثم تحدث عن خبر وصولهما إلى ظاهر المدينة، ونزولهما في بني عمرو بن عوف بقباء، وخروج أبي جهل بن هشام وأخيه الحارث إلى عياش بن أبي ربيعة وإقناعهما إياه بضرورة العودة معهما إلى مكة ليبر بقسم أمه التي نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراه، وكيف حذره عمر منهما وقوله له «يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم:» ، وعدم استماعه إلى التحذير، أو إلى عرض عمر بمقاسمته ماله الكثير، وقد صدق حدس عمر في الأمر حيث عدوا عليه في بعض الطريق فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن «٥» . يقول عمر: «فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» ، فلما قدم


(١) ابن حجر- فتح الباري (حديث ٣٩٢٥) .
(٢) ابن هشام- السيرة ١/ ٤٦٩- ٧٠ بإسناد حسن.
(٣) الحاكم- المستدرك ٣/ ٣٨٩، اورده موصولا وقال: صحيح على شرط مسلم، والطبراني: (الهيثمي- المجمع ٦/ ٦٠) ، البيهقي (ابن كثير- البداية ٣/ ١٩١) ، وانظر: أحمد وفضائل ٢/ ٢٨٢.
(٤) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ ٢٠٧، وانظر الطبري- تفسير ٤/ ٢٥٠، ابن كثير- التفسير ١/ ٣٦٠.
(٥) ابن هشام- السيرة النبوية ٢/ ١٢٩- ١٣١، ابن الأثير- أسد الغابة ٤/ ٥٨.