للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معاوية- رضي الله عنه- يفخر بتربية أمّه له، فيقول إذا نوزع بالفخر: أنا ابن هند. وما كان له ليقول ذلك إلّا إذا كانت قد اشتهرت بحسن التّربية وتنشئة أولادها على جميل الصّفات، وغرست فيهم روح السّيادة وعلوّ الهمّة، قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: إنّي أظنّ أنّ هذا الغلام سيسود قومه. قالت: ثكلته إذن إن لم يسدقومه «١» . وها هو والد الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في عصر قريب يربّي ابنه على تحمّل المشاقّ ويدرّبه على الإقدام، ويستجيب لطلبه أداء فريضة الحجّ في سنّ مبكّرة فنشأ قويّ الشّكيمة عالي الهمّة واثقا من نفسه، مستعدّا لتحمّل المسئوليّات الكبار، يدلّ على ذلك ما كتبه والد الشّيخ إلى صديق له: تحقّقت أنّه بلغ الاحتلام قبل بلوغه الثّانية عشرة، ورأيته أهلا للصّلاة بالجماعة والائتمام، فقدّمته لمعرفته بالأحكام، وزوّجته بعد البلوغ مباشرة ثمّ طلب منّي الحجّ إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف إلى ذلك المرام، فحجّ وقضى ركن الإسلام «٢» .

إنّ تربية الأطفال على علوّ الهمّة لا تنهض به الأسرة وحدها، وإنّما هو واجب المدرسة أيضا، إذ على المعلّم أن يغرس هذه القيامة العظمى في نفوس تلاميذه، وأيضا فإنّ وسائل الإعلام الحديثة- مسموعة أو مرئيّة أو مكتوبة- عليها دور كبير في غرس هذه الهمّة العالية في نفوس مستمعيها أو النّاظرين إليها أو قرّائها، حتّى يخرج من بين هؤلاء من ينهض بالأمّة ويقيلها من العثرات، ومن الوسائل التّربويّة الّتي تساعد في بثّ هذه الرّوح عامل التّشجيع الّذي ينهض به أثرياء الأمّة، فيقيمون المسابقات ويكافئون النّابغين، ولنا في سلفنا الصّالح في هذا المجال أسوة حسنة، يقول الشّاطبيّ في هذه الوسيلة (أي التّشجيع) : إنّها واجب على الكفاية، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الاخرين وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعا، القادر لأنّه قصّر وغير القادر لأنّه قصّر فيما يستطيعه، وهو التّفتيش عن القادر وحمله على العمل وحثّه وتشجيعه، وإعانته على القيام به، بل وإجباره على ذلك «٣» .

وقد كان الخلفاء والأمراء في طليعة المشجّعين لطلبة العلم وتربيتهم على علوّ الهمّة، وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب يشجّع ابن عبّاس ويدخله عليه مع من شهد بدرا من المهاجرين والأنصار، يقول ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من حيث علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رئيت أنّه دعاني يومئذ إلّا ليريهم، قال: ما تقولون في


(١) علو الهمة (٢٨٣) بتصرف يسير.
(٢) المرجع السابق (٣٨٦) .
(٣) الموافقات للشاطبي (١/ ١١٤) ، بواسطة «علو الهمة» (٣٩٤) .