للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأمّا من أنفق عصر الشّباب في العلم فإنّه في زمن الشّيخوخة يحمد جنى ما غرس ويلتذّ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذّات البدن شيئا بالإضافة إلى ما يناله من لذّات العلم.

هذا مع وجود لذّاته في الطّلب الّذي كان يأمل به إدراك المطلوب، وربّما كانت تلك الأعمال أطيب ممّا نيل منها، كما قال الشّاعر:

أهتزّ عند تمنّي وصلها طربا ... وربّ أمنيّة أحلى من الظّفر

ولقد تأمّلت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الّذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدّنيا، وأنفقت زمن الصّبوة والشّباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني ممّا نالوه إلّا ما لو حصل لي ندمت عليه، ثمّ تأمّلت حالي فإذا عيشي في الدّنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين النّاس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك، فقلت له: أيّها الجاهل. تقطيع الأيدي لا وقع له «١» عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدّت إلى صديق:

جزى الله المسير إليه خيرا ... وإن ترك المطايا «٢» كالمزاد «٣» .

ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشّدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو «٤» ، كنت في زمان الصّبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلّا عند الماء، فكلّما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همّتي لا ترى إلّا لذّة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أنّي عرفت بكثرة سماعي لحديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه وتابعيهم «٥» - رضي الله عنهم أجمعين-.

١٦-* (قال الفضل- وهو ابن زياد-:

«سمعت أبا عبد الله، يقول: ليس تضمّ إلى معمر أحدا إلّا وجدته فوقه، رحل في الحديث إلى اليمن وهو أوّل من رحل، فقال له أبو جعفر: والشّام؟، فقال: لا، الجزيرة) » * «٦» .

١٧-* (قال مكحول الدّمشقيّ الإمام: كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلّا حويت عليه فيما أرى، ثمّ أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلّا حويت عليه فيما أرى، ثمّ أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلّا حويت عليه فيما أرى، ثمّ أتيت الشّام فغربلتها، كلّ ذلك أسأل عن النّفل، فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء حتّى أتيت شيخا يقال له زياد بن جارية التّميميّ


(١) لا وقع له: أي لا ألم له.
(٢) المطايا: جمع مطية: الدابة التي تركب.
(٣) المزاد: أي المزادة وهي القربة من الجلد إذا كانت خالية من الماء
(٤) وأرجو: أي أطلبه من العلم وأرجوه من تحصيل الثواب ونفع الناس بالدعوة إلى الله.
(٥) صيد الخاطر لابن الجوزي (٢١٨- ٢١٩) .
(٦) الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي (٢٢٠- ٢٢١) ، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري (٢- ٣) .