للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عنها واستعداده لتحمّل نتائجها وقبوله بمبدإ الثّواب والعقاب المنوطين بها، أمّا السّموات والأرض والجبال المشار إليها في الآية الكريمة فلا تعدو وظيفتها أداء الدّور الّذي خلقها الله لتؤدّيه بطريقة عفويّة، وعلى نسق واحد «وليس هناك أيّ تدخّل ممكن لمبادرتها الخاصّة، لا من أجل صيانة النّظام الثّابت، ولا من أجل تغييره، أو تعديله في أيّ صورة ما كان، وإذن فلا مسئوليّة مطلقا «١» تقع عليها.

يقول الدّكتور دراز: أمّا في النّظام الأخلاقيّ، فالأمر بالعكس حيث يواجه الفاعل (وهو هنا الإنسان) إمكانات متعدّدة، يستطيع أن يختار من بينها واحدة، توافق هواه، سواء احترم القاعدة (الأخلاقيّة) أو اخترمها، وعلى ذلك فإنّ الإمكان والضّرورة هما الصّفتان اللّتان تكوّنان مجال المسئوليّة أو عدم المسئوليّة «٢» ، وجانب الإمكان هو الّذي رصد له الإنسان استعداده.

لقد أبرز القرآن الكريم هذا التّباين الّذي يضع الإنسان العاقل «٣» في مقابل الكائنات غير المزوّدة بالعقل من حيث مقدرتها الأخلاقيّة، وذلك قول الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية، والحمل هنا يعني في رأي أكثر المفسّرين- تحمّل التّكاليف، كما في قوله عزّ وجلّ عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ..

(النور/ ٥٤) أو قوله سبحانه مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ (الجمعة/ ٥) «٤» ، وعلى هذا التّفسير يكون المراد بالإنسان جنس الإنسان عامّة كما قال النّيسابوريّ وغيره «٥» .

أمّا المعنى الآخر للحمل وهو تحمّل الخطإ أو الوزر- وهو أيضا معنى وارد، وقال به بعض المفسّرين، فإنّه يحصر الإنسان في الكافر أو المنافق (أو قابيل) ، خاصّة «٦» .

وقد لخّص الشّيخ دراز وجهة من قال بذلك من المفسّرين فقال: المعنى: مع أنّ المخلوقات الأخرى قد وفت بمهمّتها حين خضعت للقانون الكونيّ (الّذي خلقها الله عليه) دون اعتراض أو مقاومة قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (فصلت/ ١١) ، فإنّ الإنسان الّذي لم يطع القانون الأخلاقيّ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ... الآية (الأعراف/ ١٧٢) يبقى محمّلا به وعلى ذلك فالأمر لا يتعلّق بالإنسان بعامّة، بل بالكفّار والعصاة وحدهم، وقال- رحمه الله تعالى- معقّبا على هذا التّفسير: وهو تفسير- لا ريب معقول، في ذاته، ولكنّه فضلا عن ذلك التّقييد الّذي يفرضه على مفهوم الإنسان الّذي جاء غير محدّد في النّصّ، فإنّه لا يحدّد


(١) دستور الأخلاق في القرآن الكريم للدكتور دراز ص، ١٣٨
(٢) المقصود بذلك أن الإمكان يشكل مجال المسئولية بالنسبة للإنسان المكلف، والضرورة تشكل مجال عدم المسئولية بالنسبة للمخلوقات الأخرى غير المكلفة كالأرض والجبال إلخ.
(٣) يلاحظ أن من المفسرين من جعل الأمانة هي العقل حيث به تتحصل معرفة التوحيد وتجري العدالة. انظر المقدمة اللغوية لصفة الأمانة.
(٤) دستور الأخلاق في القرآن ص، ١٣٨
(٥) انظر تفسير النيسابوري للآية الكريمة ح ٢٢ ص ٣٥ (بهامش الطبري) وتفسير ابن كثير ٣/، ٥٣٢
(٦) انظر تفسير القرطبي ١٤/، ٢٥٥