للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما المنافقون فإنهم سخروا من هذه البشارة، وهذا الموقف منهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين.

وقد صوّر القرآن الكريم موقف المنافقين بشكل دقيق، قال تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «١» . وقوله تعالى: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً «٢» . وقوله تعالى: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا «٣» .

وبالرغم من كل تخذيل المنافقين وإرجافهم، وظروف المجاعة، وشدّة البرد، فقد مضى المسلمون في تنفيذ مهامهم واستعداداتهم، وإكمال خطة الدفاع عن المدينة. وحين انتهى حفر الخندق، وضع الرسول صلّى الله عليه وسلّم النساء والأطفال في حصن فارع، وهو لبني حارثة، وكان أقوى حصون المسلمين «٤» . ثم رتّب صلّى الله عليه وسلّم المسلمين للدفاع، فأسند ظهر الجيش إلى جبل سلع داخل المدينة، ووجوههم إلى الخندق الفاصل بينهم وبين المشركين الذين نزلوا «رومه» بين الجرف والغابة ونقمى «٥» . وكان تفوق عدد قوات المشركين كبيرا، فقد بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل في مقابل ثلاثة آلاف من المسلمين «٦» . وإزاء ذلك رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصالح قبيلة غطفان في مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لتلك السنة، غير أن زعيمي الأوس والخزرج سألا النبي صلّى الله عليه وسلّم: أهو وحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؟ فرأينا تبع لرأيك وهواك. فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فو الله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلّا شراء أو قرى» فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفاوضة مع زعماء قبيلة غطفان «٧» .

واشتد تأزم الوضع على المسلمين حين بلغهم أن حلفاءهم يهود بني قريظة قد نقضوا العهد وغدروا بهم وكانوا يسكنون العوالي في جنوب شرق المدينة مما يمكنهم من طعن المسلمين من الخلف. وقد أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم الزبير ابن العوام للاستطلاع في أول الأمر، ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فوجداهما قد نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة، إلّا بني سعفة منهم، فإنهم خرجوا إلى المسلمين من حصونهم معلنين التزامهم ووفاءهم بالعهد «٨» . وبعد


(١) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ ١٢.
(٢) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ ١٩.
(٣) القرآن الكريم- سورة الأحزاب، الآية/ ٢٠.
(٤) مسلم- الصحيح ٤/ ١٨٧٩، الهيثمي- مجمع الزوائد ٦/ ١٣٣، الطبري- تاريخ ٢/ ٥٧٠- ٥٧١.
(٥) الطبري- تفسير ٢١/ ١٢٩- ١٣٠.
(٦) ابن هشام- السيرة ٢/ ٢١٥، ٢٢٠، الطبري- تفسير ٢١/ ١٣٠، ابن حجر- فتح الباري ٧/ ٣٩٣، ابن سعد- الطبقات ٢/ ٦٦، ابن الجوزي- الوفا ص ٢٩٢.
(٧) الهيثمي- مجمع الزوائد ٦/ ١٣٢، ابن هشام- السيرة ٣/ ٣١٠- ٣١١، وانظر: ابن سعد- الطبقات ٢/ ٧٣.
(٨) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٨٠) .