للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فالاحتراز من العقل به (أي بالعقل أيضا) أن يقال له: ألم يثبت عندك أنّه سبحانه مالك حكيم وأنّه لا يفعل شيئا عبثا؟ فيقول: بلى. فيقال له: نحن نحترز من تدبيرك الثّاني بما ثبت عندك في الأوّل، فلم يبق إلّا أنّه خفي عليك وجه الحكمة في فعله تعالى..

واعتبر بحال الخضر وموسى- عليهما السّلام- إذ لمّا فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات أنكر موسى ونسي إعلام الخضر له بأنّه ينظر فيما لا يعلمه من العواقب، فإذا خفيت العاقبة على موسى مع مخلوق، فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة الحكيم، وهذا أصل إن لم يثبت عند الإنسان أخرجه إلى الاعتراض والكفر، وإن ثبت استراح عند نزول كلّ آفة» ) * «١» .

١٠-* (وقال ابن الجوزيّ- رحمه الله تعالى-:

النّظر في العواقب، وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء وأمّا النّظر في الحالة الرّاهنة فحسب، فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض، أوغنيّا وينسى الفقر أو يرى لذّة عاجلة وينسى ما تجني عواقبها، وليس للعقل شغل إلّا النّظر في العواقب، وهو يشير بالصّواب، من أين يقبل؟) * «٢» .

١١-* (وقال ابن مفلح (عن أبي الفرج) :

إنّما فضّل العقل على الحسّ بالنّظر في العواقب فإنّ الحسّ لا يرى إلّا الحاضر، والعقل يلاحظ الآخرة «٣» ويعمل على ما يتصوّر أن يقع، فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمّح العواقب، فمن ذلك إنّ التّكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الرّاحة يوجب (عند النّظر والتّبصّر) حسرات دائمة لا تفي لذّة البطالة بمعشار تلك الحسرة) * «٤» .

١٢-* (قال ابن مفلح المقدسيّ في الفصل الّذي عقده للبصيرة (التّبصّر) والنّظر في العواقب:

كان ملوك فارس يعتبرون أحوال الحواشي (رجال حاشيتهم) بإيفاد التّحف على أيدي مستحسنات الجواري، حتّى إذا أطالوا الجلوس، ودبّت بوادي الشّهوة، قتلوهم، وكانوا إذا أرادوا مطالعة عقائد النّسّاك دسّوا من يتابعهم على ذمّ الدّولة، فإذا أظهروا ما في نفوسهم استأصلوهم. قال بعضهم: لذلك ينبغي الحذر من هذه الأحوال، ومن مخض الرّأي كانت زبدته الصّواب» ) * «٥» .

١٣-* (قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى- أيضا: (يقول الشّيطان لأعوانه) امنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتبارا، بل اجعلوه تفرّجا واستحسانا وتلهّيا، فإن استرق (البصر) نظرة عبرة فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان والشّهوة، فإنّ ذلك أقرب إليه وأعلق بنفسه، وأخفّ عليه، وعليكم بثغر العين فإنّكم تنالون منه بغيتكم، وإنّي ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النّظر، فإنّي أبذر به في القلب بذر الشّهوة، ثمّ أسقيه بماء الأمنية، ثمّ لا أزال أعده وأمنّيه،


(١) صيد الخاطر ص ٤٦٣- ٤٦٤
(٢) المرجع السابق ص ٥٢٩
(٣) الآخرة هنا ما يقع بأخرة.
(٤) الآداب الشرعية ٢/ ٢٢٩، وقد ذكر أمثلة أخرى عديدة مشابهة.
(٥) المرجع السابق ٢/ ٢٢٩