للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

انبرى يخاطب الجيش مشجعا على قتال العدو قائلا: «يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون:

الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ولا نقاتلهم إلّا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة» فقال الناس «قد والله صدق ابن أبي رواحة» وأحدثت عباراته الإيمانية الواثقة بقضاء الله وقدره أثرها في نفوس المسلمين «١» . أصدر زيد بن حارثة أمره لقواته بالتقدم نحو قوات العدو متخذا من قرية مؤتة مقرّا لقواته التي عبأها فجعل على ميمنته قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري، والتقى الجيشان غير المتكافئين في عددهم وعدتهم، وكانت ملحمة بطولية خالدة سجل فيها المجاهدون وقادتهم الثلاثة بطولات وجرأة وثباتا نادرا غير أنها انتهت باستشهاد القادة واحدا تلو الآخر «٢» ، واختار المسلمون- حسب توجيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قائدا بديلا، هو خالد بن الوليد الذي كان يدرك خطورة الوضع، فأعاد تنظيم الجيش، وأوهم العدو بوصول الإمدادات مما مكنه من اهتبال الفرصة للقيام بانسحاب منظم لم يخسر فيه إلا عددا محدودا من قواته، وبذلك أنقذ الجيش الإسلامي من خطر الإبادة الكاملة أمام جموع العدو الهائلة «٣» ، ويعتبر هذا الإنجاز فتحا كبيرا عند مقارنة خسارة المسلمين المحدودة بما يقابلها من خسائر الروم الذين أثخنت قواتهم بأعداد كبيرة من القتلى والجرحى. ولا شك في أن بسالة المقاتل المسلم وشجاعته النادرة وحرصه على الموت في سبيل الله، إلى جانب عبقرية خالد العسكرية ونظراته الثاقبة، وقدرته على المناورة، وذكائه، وفطنته قد مكنت المسلمين من التخلص من مأزقهم أمام الجيش البيزنطي.

وقد ظهرت معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم في أمر هذه السرية فقد نعى للمسلمين في المدينة زيدا وجعفرا وابن أبي رواحة، قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع. ثم أخبرهم باستلام خالد للراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله «٤» ، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم «٥» ، وكان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله لذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما يسرّني أو قال ما يسرّهم أنّهم عندنا» «٦» .


(١) ابن هشام- السيرة ٣/ ٤٣٥- ٤٤٢.
(٢) المرجع السابق ٣/ ٤٤٢- ٤٤٧، ولم يسند ابن إسحاق من قصة الوقعة سوى خبر عقر جعفر بن أبي طالب لفرسه ونزوله للمعركة راجلا، وخبرين أولهما عن تردد عبد الله بن رواحة وثانيهما عن تصميمه وإقدامه وهي بأسانيد حسنة فيها ذكر لصحابي مجهول.
(٣) المرجع السابق ٣/ ٤٤٧، ابن حزم- جوامع السيرة ص/ ٢٢٢.
(٤) البخاري- الصحيح (فتح الباري ٧/ ٥١٢ حديث ٦٢٦٢، ٦٢٦٣) .
(٥) جاء بأخبار الغزوة إلى المدينة يعلى بن أمية، كما في رواية موسى بن عقبة: انظر ابن كثير- البداية والنهاية ٤/ ٢٧٥، ابن حجر- فتح ٧/ ٥١٢ في شرح الحديث (٦٢٦٢) ، وأورد ابن حجر كذلك رواية أخرى تجعله (عامر الاشعري) وهي من رواية الطبراني. عنده.
(٦) البخاري- الصحيح (فتح الباري- ٦/ ١٣٥ حديث ٣٠٦٣) .