للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس «١» بتوبة الله علينا، حين صلّى صلاة الفجر. فذهب النّاس يبشّروننا. فذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قبلي، وأوفى الجبل «٢» . فكان الصّوت أسرع من الفرس. فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني. فنزعت له ثوبيّ فكسوتهما إيّاه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما.

فانطلقت أتأمّم «٣» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلقّاني النّاس فوجا فوجا «٤» يهنّئوني بالتّوبة ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك حتّى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس في المسجد وحوله النّاس. فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتّى صافحني وهنّأني. والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة.

قال كعب: فلمّا سلّمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال وهو يبرق وجهه من السّرور ويقول: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال «لا. بل من عند الله» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه كأنّ وجهه قطعة قمر. قال: وكنّا نعرف ذلك. قال: فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي «٥» صدقة إلى الله وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك بعض مالك، فهو خير لك» قال:

فقلت: فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر. قال وقلت:

يا رسول الله إنّ الله إنّما أنجاني بالصّدق وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلّا صدقا ما بقيت. قال: فو الله ما علمت أنّ أحدا من المسلمين أبلاه الله «٦» في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا أحسن ممّا أبلاني الله به. والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإنّي لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله- عزّ وجلّ-:

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ (التوبة/ ١١٧- ١١٨) حتّى بلغ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة/ ١١٩) . قال كعب:

والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا أكون كذبته «٧» فأهلك كما هلك الّذين كذبوا. إنّ الله قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، وقال الله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ


(١) فآذن ... الناس: أي أعلمهم.
(٢) وأوفى الجبل: صعده وارتقى عليه.
(٣) أتامم: أي أقصد.
(٤) فوجا فوجا: الفوج الجماعة.
(٥) أن أنخلع من ما لي: أي أخرج منه وأتصدق به.
(٦) أبلاه الله: أي أنعم عليه. والبلاء والإبلاء يكون في الخير والشر. لكن إذا أطلق، كان للشر غالبا فإذا أريد الخير. قيد كما قيد هنا، فقال أحسن مما أبلاني.
(٧) أن لا أكون كذبته: هكذا في جميع نسخ مسلم، وكثير من روآيات البخاري. قال العلماء: لفظة (لا) في قوله: أن لا أكون، زائدة. ومعناه: أن أكون كذبته. كقوله تعالى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (الأعراف/ ١٢) .